مقدمة:

يحظى موضوع الصمت والكلام بأهمية بالغة في الأخلاق الإسلامية، إذ يُعدُّ ضبط اللسان واختيار الوقت المناسب للكلام أو الصمت معيارًا لإيمان المرء وحكمته. القرآن الكريم والسنة الشريفة حافلان بالتوجيهات التي تبين فضيلة الصمت في مواضع، وفضيلة الكلام في مواضع أخرى، وفق ضوابط وحكمة إلهية. كما تناول كبار علماء الإسلام – قديمًا وحديثًا – هذه الفضائل بعمق عرفاني وفكري، مؤكدين أن الإسلام الأصيل يدعو إلى التوازن؛ فلا إفراط في الكلام يهوي بصاحبه في آفات اللسان، ولا إفراط في الصمت يمنعه من قول الحق. في هذا المقال نستعرض الرؤية الإسلامية الأصيلة تجاه الصمت والكلام، بالاستناد إلى الآيات القرآنية، والأحاديث المعتبرة عن النبي وأهل بيته (عليهم السلام)، وأقوال كبار العلماء كالإمام الخميني والإمام الخامنئي الشهيد السيد محمد باقر الصدر وآخرين، وذلك ضمن محاور منظمة تكشف تعريف هذين المفهومين وفضائلهما وضوابطهما وآثارهما المتنوعة.

أولًا: تعريف الصمت والكلام في المنظور القرآني والروائي والعقلي

تعريف الصمت: الصمت في اللغة هو السكوت وترك الكلام. وقد عرّفه بعض العلماء اصطلاحًا بأنه “إمساكٌ عن قول الباطل دون الحق” ؛ أي أن السكوت الممدوح هو الكفّ عن الكلام الباطل أو الذي لا فائدة فيه، وليس السكوت عن قول الحق. ويميّز العلماء بين السكوت والصمت: فالسكوت هو ترك الكلام مع القدرة عليه ولو لحظات قصيرة، أما الصمت فيدل على ترك الكلام لفترة أطول نسبيًا . وقد قال أهل الحكمة: “الصمت أبلغ من السكوت” لأن الصمت يدل على انقطاع تام عن اللغو، بينما قد يُقال ساكت لمن يقدر أن يتكلم ولكنه يترك الكلام آنًا ما .

تعريف الكلام: أما الكلام فهو النطق بما يريد المرء التعبير عنه. والكلام ميزة الإنسان العاقل التي بها يعبّر عن فكره وينشر المعرفة؛ وقد امتنَّ الله على الإنسان بهذه القدرة بقوله تعالى: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ ۝ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ ۝ عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ۝﴾ أي علّمه القدرة على البيان والكلام . وعليه، فالأصل في الكلام أن يكون نعمة ووسيلة لإظهار الحقائق ونشر الخير، ما لم يُستعمل في غير موضعه.

من المنظور القرآني: يشير القرآن إلى أهمية الكلمة وضبطها في مواضع عديدة. من ذلك قوله تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ ؛ ففي هذه الآية أمرٌ إلهي بأن يختار المؤمنون أفضل الكلمات عند الحديث لتجنب النزاع والفساد، مما يدل على قيمة الكلام الحَسَن. في المقابل، أكد القرآن ضرورة الابتعاد عن الكلام السيئ واللغو؛ قال تعالى في وصف المؤمنين: ﴿وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ﴾ أي أنهم يعرضون عن الكلام الباطل الذي لا فائدة فيه. كما ينبّه القرآن إلى خطورة كل كلمة ينطق بها الإنسان: ﴿مَّا یَلۡفِظُ مِن قَوۡلࣲ إِلَّا لَدَیۡهِ رَقِیبٌ عَتِیدٌ﴾ ، أي ما يتفوه بكلمة إلا وهناك ملكان يراقبانها ويكتبانها. وقد علَّق المفسرون بأن هذه الآية دليل على وجوب تحرّي المرء لكلامه، فكل لفظ محسوب ومسؤول عنه يوم الحساب . ومن هنا فهم السلف أن “الأخبار في ذمّ كثرة الكلام ومدح الصمت… كثيرة جدًا” في تراث الإسلام، لدى الشيعة والسنة على السواء .

من المنظور الروائي (السنة النبوية وأهل البيت): تزخر الأحاديث بتحديد معالم الكلام المحمود والصمت المحمود. فمن جهة، حضَّ النبي محمد ﷺ على ضبط اللسان فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» . هذا الحديث يضع قاعدة ذهبية في الكلام: إن كان ما ستنطق به خيرًا بيّنًا فتكلم، وإلا فالسكوت أولى. وقد علق العلماء على ذلك بقولهم: “قول الخير أفضل من الصمت؛ لأن قول الخير غنيمة، والسكوت سلامة، ولا شك أن الغنيمة أفضل من السلامة” . ومن جهة أخرى، جاءت الروايات في فضل الصمت وضبط اللسان كثيرة. قال رسول الله ﷺ: «من صمت نجا» – أي من لزم الصمت (عند عدم وجود خير في الكلام) فقد نجا من آفات اللسان. وقد ثبتت صحة هذا الحديث عند المحدثين . وروي عنه أيضًا: «لا ينبغي للعالم أن يسكت على علمه، ولا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله» ؛ فالعالِم عليه واجب تبليغ العلم ولا يصمت عن نشره، والجاهل عليه أن يسأل ولا يستحي فيبقى صامتًا على جهله. وهكذا يتضح أن الصمت المحمود في الروايات هو ترك الفضول والباطل من الكلام، أما الكلام الممدوح فهو الذي يحمل خيرًا كتعليم علم أو ذكر الله أو أمر بمعروف.

من المنظور العقلي والحكمي: ناقش الحكماء فضيلة الصمت والكلام بتقسيمٍ عقلي لمجالات الكلام. ذكر الإمام أبو حامد الغزالي أن الكلام أربعة أقسام : (1) كلام ضررٌ محضٌ، (2) كلام نفعٌ محضٌ، (3) كلام فيه نفع وضرر معًا، (4) كلام لا نفع فيه ولا ضرر (فضول الحديث). فأما الكلام ذو الضرر المحض أو الذي ضرره أكبر من نفعه، فيجب تركه قطعًا، وهذا محل الصمت. وأما الكلام الذي لا منفعة فيه ولا مضرة فهو فضول واشتغال بما هو ضياع للعمر، فتركه أولى لأنه خسران مبين . فلم يبقَ إلا الكلام النافع المحض أو الغالب نفعه، فهذا هو الذي يُتكلّم به. ويضيف الغزالي تحذيرًا مهمًا: حتى هذا القسم النافع فيه خطر الانزلاق إلى الرياء أو العُجب أو الغيبة وغيرها من آفات اللسان الخفية . لذلك خلص إلى حكمة نبوية بليغة: «من صمت نجا» ، فإن من أطلق لسانه لم يكد ينجو من الآفات، ومن صمت سلم من كل ذلك . فالعقل السليم إذن يؤيد الشرع في أن الأصل هو تقليل الكلام إلا فيما فيه خير واضح، وأن السكوت هو الأسلم في معظم الأحوال تجنبًا للمخاطر.

وخلاصة هذا المحور: الصمت في الإسلام هو سكوتٌ واعٍ وإمساك اللسان عن الشر والقبيح واللغو، يُمارسه المؤمن طلبًا للسلامة والحكمة. والكلام في الإسلام هو النطق بالحق والخير والكلمة الطيبة في محلها، يُقدم عليه المؤمن طلبًا للأجر والإصلاح. وكلاهما – الصمت والكلام – له فضيلة في موضعه الخاص، كما سيأتي بيانه.

ثانيًا: متى يكون الصمت فضيلة؟ ومتى يكون الكلام واجبًا أو فضيلة؟

لقد وضعت الشريعة لكل من الصمت والكلام مواضعَ معينة يكون فيها محمودًا أو مذمومًا. يكون الصمت فضيلة محمودة عندما يقي الإنسان من الوقوع في الإثم أو اللغو، أو عندما يكون الكلام غير ضروري ولا نافع. وقد قيل في الحكمة: “إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب”. وروي عن الإمام علي بن أبي طالب (ع) قوله: «ما من شيء أحقّ بطول السجن من اللسان» ، إشارةً إلى أن الأصل إغلاق هذا العضو وحبسه عن الكلام إلا عند الحاجة المعتبرة. كذلك قال الإمام جعفر الصادق (ع): «لا يزال العبد المؤمن يُكتب محسنًا ما دام ساكتًا، فإذا تكلم كُتب إمّا محسنًا وإمّا مسيئًا» . فسكوت المؤمن يُكسبه حسنات مادام لم يتكلم بسوء، أما إذا تكلم فإما له أو عليه. إذًا السكوت سلامة وضمان للنجاة في كثير من الأحيان، ولهذا جاء في الحديث الشريف: «من صمت نجا» .

ولكن في المقابل يكون الكلام واجبًا أو فضيلة عظيمة حين يتوقف عليه إحقاق حق أو إبطال باطل أو نشر خير. فالسكوت في موضع يجب فيه الكلام مذموم شرعًا. قال أمير المؤمنين علي (ع): «لا خير في الصمت عن الحكم، كما أنه لا خير في القول بالجهل» . أي لا خير في السكوت عن قول كلمة الحق والحكمة عند الحاجة، كما لا خير في الكلام بغير علم. وقد ورد عن رسول الله ﷺ تشبيهٌ بليغ لمن يسكت عن قول الحق بالشيطان الأخرس (رغم أن هذه العبارة مأثورة عن بعض السلف وليست حديثًا نبويًا مباشرًا ) والمعنى صحيح؛ لأن من يرى المنكر أو الظلم ولا يتكلم وهو قادر، فهو شريك في الإثم بسكوته. ولهذا قال النبي ﷺ: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، فهذه كلمة يُنطق بها تصبح من أعظم العبادات لأنها قيلت في موضعها لنصرة الحق.

يؤكد أئمة أهل البيت (ع) هذا المعنى بجلاء. فقد سُئل الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) – وهو المعروف بعبادته وحكمته – عن الكلام والصمت أيهما أفضل؟ فأجاب بحكمة ميزت المقامين، قال: «لكل واحد منهما آفات، فإذا سلِما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت». فتعجب السائل قائلا: وكيف ذلك يا ابن رسول الله؟ فقال (ع): «لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استُحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا توقّيت النار بالسكوت، إنما ذلك كلّه بالكلام» . وأضاف (ع) جملةً ذات دلالة عميقة: «ما كنتُ لأعدل القمرَ بالشمس؛ إنك تصف فضل السكوت بالكلام ولستَ تصف فضل الكلام بالسكوت» . والمعنى أن فضل الكلام (عند خلوّه من الآفات) أعظم من فضل السكوت، لأن أعظم الغايات كالجنة ونيل رضا الله وتبليغ رسالاته لا تُنال إلا بالكلام (كلمة التوحيد، كلمة الحق، الدعوة باللسان…). وكأنه يقول: إن الكلام الصالح نور كالشمس لا يُقارن بضوء القمر (الصمت) إلا عند وجود آفاته. ولكن تنبّه الإمام في بداية الحديث إلى الشرط الأساس: “إذا سلما من الآفات”، إذ كثيرًا ما ينجو الصامت من الآفات أكثر من المتكلم. لذا فالأفضلية هنا مشروطة ومقيّدة. وبعبارة أخرى: إذا كان في كلامك خيرٌ خالص فلا تصمت، فالكلام أفضل حينئذٍ؛ أما إذا كان كلامك مشوبًا بشر أو باطل فالصمت خيرٌ لك.

وضرب النبي ﷺ مثالاً عمليًا يوضح متى يجب الكلام ومتى يجب السكوت: «لا ينبغي للعالِم أن يسكت على علمه، ولا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله» . فالعالِم إذا رأى الناس في حاجة إلى ما يعلم من حقائق الدين أو أي علم نافع، وجب عليه الكلام وتعليمهم وإرشادهم، ولا يجوز له الصمت بحجة الزهد أو الخوف؛ لأن كتم العلم مذموم. وفي المقابل الجاهل الذي يجهل أمور دينه أو أي أمر نافع، لا يصح له أن يظل صامتًا مستحييًا من السؤال، بل الكلام واجب له هنا بأن يطرح سؤاله ويطلب العلم، وإلا لكان رضاه بالجهل مذبّةً له. وقد استشهد الحديث بالآية: ﴿فَسۡـَٔلُوۤا۟ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ تأكيدًا على وجوب السؤال والكلام لرفع الجهل .

ومن أبهى البيان في هذا الباب قول الإمام علي (ع) في نهج البلاغة: «وتكلّموا تُعرفوا، فإن المرء مخبوء تحت لسانه». فشخصية الإنسان وهويته تظهر عند كلامه ؛ فإن كان عاقلًا تبيّن ذلك في منطقه، وإن كان جاهلًا افتضح بكلامه. كما قال (ع): «إذا تمّ العقل نقص الكلام» مشيرًا إلى أن العاقل المكتمل يكثر منه الصمت والتفكر ويقلّ منه الكلام الفارغ. لكنه (ع) نفسه الذي كان كثير الصمت، عُرف بشجاعة النطق بالحق حين يستدعي المقام ذلك، فلم يسكت عن حق قط. وهكذا نتعلم أن الصمت فضيلة حين يكون الكلام بلا منفعة أو فيه مضرة، والكلام فضيلة بل واجب حين يُظهر حقًا أو يدفع باطلاً أو ينشر خيرًا.

ثالثًا: المقارنة بين الصمت والكلام وضوابط كلٍّ منهما

جاءت النصوص الإسلامية ببيان ضوابط واضحة لكل من الصمت والكلام، بحيث يُعرف متى يُمدح هذا ومتى يُذم ذاك. وقد جمع الإمام علي (ع) هذه الضوابط في قول وجيز جامع، فقال: «جمع الخير كلّه في ثلاث خصال: النظر، والسكوت، والكلام. فكلُّ نظرٍ ليس فيه اعتبار فهو سهو، وكلُّ سكوتٍ ليس فيه فِكْر فهو غفلة، وكلُّ كلامٍ ليس فيه ذِكر فهو لغو» . ثم بيَّن النتيجة قائلًا: «فطوبى لمن كان نظره عِبرَةً، وسكوته فِكرًا، وكلامه ذِكرًا، وبكى على خطيئته، وأمِن الناسُ شرَّه» . في هذا الحديث يضع الإمام علي أربع قواعد ذهبية:

  • شرط الفضيلة في السكوت: أن يقترن بالتفكر. فإن سكت الإنسان طويلًا دون تفكير في آيات الله ومحاسبة لنفسه، فقد يتحول سكوته إلى مجرد غفلة أو بلادة. أما السكوت الممدوح فهو ما كان فرصة للتأمل في عظمة الله ومراجعة النفس. وقد روي عن رسول الله ﷺ: «إذا رأيتم المؤمن صموتًا فادنوا منه فإنه يُلقي الحكمة» – أي أنه باجتماعه للصمت والتفكر يفتح الله عليه بالحكمة ويلقيها على لسانه عند الكلام. ولذلك جاء عنه أيضًا: «إذا تم العقل نقص الكلام» لما في قلة الكلام من إفساح مجال للعقل بالتفكير العميق.
  • شرط الفضيلة في الكلام: أن يكون مشتملًا على ذكر الله وكل ما يقرّب إلى الله من حق وخير. فإن خلا الكلام من ذكرٍ لله – سواء كان ذكرًا صريحًا بالتسبيح والدعاء، أو ضمنيًا بنية صالحة ومقصد نبيل – فإنه يصير لغوًا مذمومًا كما قال الإمام (ع). وعليه فإن “كل كلام ليس فيه ذكر فهو لغو” . وقد أمرنا الله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أي قولوا الكلام الحسن الطيب للناس ، وهذا يشمل ذكر الله ودعوة الخلق إليه بالكلمة الحسنة. ومن الضوابط القرآنية أيضًا قوله تعالى: ﴿يَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَقُولُوا۟ قَوۡلࣰا سَدِیدࣰا﴾ ؛ أي قولًا صحيحًا مستقيمًا لا اعوجاج فيه. فالقول السديد يشمل الصدق والعدل وعدم الإسهاب بما لا طائل تحته.
  • ضابط ما يُترك من الكلام: علمنا النبي ﷺ القاعدة العامة: «فليقل خيرًا أو ليصمت» . فالكلام المشروع محصور في الخير؛ أي شيء خارج عن دائرة الخير – كالكذب والغيبة والنميمة أو مجرد الثرثرة الفارغة – فهو مما ينبغي تركه والصمت عنه. حتى الكلام الـمُباح تمامًا (الذي لا إثم فيه ولا أجر) ندب الشرع إلى التقليل منه لأن كثرة المباح قد تجرّ إلى المحرّم. قال النووي شارحًا الحديث السابق: “يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافةً من انجراره إلى المحرّم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا” . إذن الضابط: إن لم يظهر لك أن كلامك سيكون خيرًا نافعًا، فالأولى أن تمسك لسانك. وقد عبّر الإمام زين العابدين (ع) عن حق اللسان في رسالته للحقوق بقوله: «حقُّ اللسان إكرامُه عن الخنا (الفحش) وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبِرُّ بالناس، وحُسن القول فيهم» . فهذه أربعة ضوابط: (1) أن لا يُستعمل اللسان في فحش أو بذاءة، (2) وأن يعود صاحبه لسانه على قول الخير دائمًا، (3) وأن يترك الكلام الزائد الذي لا ينفع، (4) وأن يستخدم لسانه في قول الخير للناس والتلطّف معهم. ما أجملها من قواعد تضمن للمؤمن أن يكون كلامه طيبًا وصمته عافية!
  • ضابط ما يُترك من الصمت: بالمقابل، علّمونا أن السكوت رغم فضله ليس مطلقًا في كل حال. فإذا كان السكوت سيؤدي إلى ضياع حق أو التستر على منكر أو تعطيل رسالة، فإنه سكوت مذموم. جاء في الحديث: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسو القلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» . مفهوم المخالفة هنا: كما أن كثرة الكلام بغير ذكر تسبب قسوة القلب، فإن كثرة الصمت عن ذكر الله أيضًا تُذهب نور القلب. ولذا قال أمير المؤمنين (ع): «لا تقطعوا أنهاركم (أي أوقاتكم الثمينة) بحديث كذا وكذا… كفّوا ألسنتكم وسلِّموا تسليمًا تغنموا» . أي لا تهدروا الزمن في لغو الحديث كقولكم فعلنا كذا وفعلنا كذا بلا طائل؛ بل أمسِكوا ألسنتكم والتزموا التسليم لأمر الله تفوزوا. كذلك حذّر الإمام الكاظم (ع) رجلًا وجده يتكلم بكلام فضولي لا حاجة له به، فقال له: «يا هذا، إنك تُملي على حافظيك كتابًا إلى ربك، فتكلّم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك» . فهذه قاعدة ينبغي أن يضعها المؤمن نصب عينيه: هل يسرّه أن يقرأ كلامه هذا في صحيفته يوم القيامة؟ إن كان نعم فليتكلم، وإن كان لا فليصمت. “فتكلّم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك”. ومن هنا قالوا: السكوت في غير موضعه قد يكون مذمومًا كالكلام في غير موضعه، وكلاهما يحتاج إلى حكمة وتمييز.

وبهذا يتضح أن الإسلام لا يشجع على صمت مطلق ولا على كلام مطلق، بل وضع ضوابط ميزان: فالصمت مشروع ومطلوب عندما يكون فيه سلامة للنفس وحفظ للدين – بشرط أن يكون مصحوبًا بالتأمل والفكر –، والكلام مشروع ومطلوب عندما يكون فيه نفع ديني أو دنيوي مشروع – بشرط أن يكون صادقًا طيبًا. أما الصمت عن حقٍ واجب أو الكلام بباطلٍ أو لغو فكلاهما مذموم. هذه الضوابط تضمن للمؤمن أن يكون ساكتًا حكيمًا حين يجب السكوت ومتكلّمًا بالخير حين يجب الكلام. وكما قيل: “كن حكيمًا في قولك وفي صمتك” .

رابعًا: الآثار السلوكية والعرفانية والاجتماعية للصمت والكلام

للصمت والكلام آثار عميقة في سلوك الإنسان وروحانيته وعلاقاته الاجتماعية، وقد نبّهت النصوص إلى هذه الآثار لتحفيز المؤمن على التحلي بفضيلة الصمت حيث ينبغي والكلام حيث ينبغي.

1. الآثار السلوكية (الأخلاقية):

الصمت وقلة الكلام باب من أبواب تهذيب النفس وترويضها على الفضائل. فمن يلزم الصمت عن الباطل يجاهد نفسه على ترك أسهل المعاصي نسبيًا (وهو الكلام)، فيسهل عليه ترك ما هو أشد. ولهذا عُدّ الصمت من جنود العقل ومن أركان تزكية النفس الأساسية في آداب السلوك العرفاني . قال أحد الحكماء: “بكثرة الصمت تكون الهيبة”، أي أن كثرة الصمت عن اللغو تمنح صاحبها وقارًا وهيبة في قلوب الناس . وهذا مشاهدٌ في الواقع؛ فالشخص الذي لا يتكلم إلا عند الحاجة وبكلام موزون، يهابه الناس ويحترمونه أكثر من الثرثار كثير الكلام الذي يُزري بنفسه. وقد قال الإمام علي (ع): «هيبة الرجل على قدر كلامه، قلَّ كلامه قلَّت هيبته». كذلك الصمت يُكسب صاحبه فرصة للتفكر ومحاسبة النفس، فيزداد علمًا وبصيرةً. جاء عن النبي ﷺ: «إذا رأيتم المؤمن صموتًا فادنوا منه فإنه يُلقي الحكمة» ، وفي حديث آخر: «أول العلم الصمت، والثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرابع العمل به، والخامس نشره» ، فجعل الصمت الخطوة الأولى لتحصيل العلم والحكمة. أما الكلام الطيب المعتدل فله أيضًا أثر أخلاقي عظيم، إذ يزكي النفس وينمي فضيلة الشجاعة الأدبية؛ فالمؤمن الذي لا يخاف في الله لومة لائم يقول الحق ويتكلم بالخير، يتربى في نفسه الصدق والإخلاص. وعلى العكس، كثير الكلام بغير ذكر الله يوشك أن يقع في الكذب والمبالغات ويمرض قلبه بالقسوة . وقد قالوا قديمًا: كثرة الكلام تذهب بالوقار وتظهر عيوب المتكلم، بينما الصمت يُخفي نقائص صاحبه. وروي عن الإمام علي (ع): «الصمت سترٌ للعيوب». إذًا من ناحية أخلاقية شخصية، الصمت يعين على تحصيل الحِلم والأناة والحكمة، والكلام النافع يعين على تحصيل الشجاعة في الحق ونشر الفضيلة. وكلاهما يقي الإنسان من الاعتذار للآخرين؛ فإن الصامت لا يندم على كلمة جارحة قالها، والمتكلم بالخير لا يندم على إحسانه. وفي الحديث: «رحم الله امرأً قال خيرًا فغنم، أو سكت عن سوء فسلم».

2. الآثار العرفانية (الروحية):

انعكس فضل الصمت والكلام حتى على حياة أهل السلوك العرفاني. فأهل العرفان يُوصون المريد في أوائل سلوكه بلزوم الصمت وكسر عادة الكلام الزائد، لأنه يحفظ قلبه من التشتت. يُروى عن العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قدس سره) – وهو من كبار العرفاء في العصر الحديث – أنه قال لتلامذته: «رأيتُ من الصمت آثارًا عظيمة. إلزم الصمت أربعين يومًا ولا تتكلم إلا عند الضرورة، وانشغل بالفكر وذكر الله، حتى تحصل لقلبك صفاءٌ ونورانية». هذه النصيحة ثمينة تبين أن ثمرات روحية هائلة تنتظر من يروض لسانه بالصمت مع الذكر والتأمل؛ من صفاء القلب ونورانية الروح وإشراق البصيرة. وقد عقد العارفون بابًا لمقام الصمت في السير والسلوك، وذكروا أن الخلوة مع الصمت والذكر أربعين يومًا تفتح للمريد أبواب الحكمة. يؤيد ذلك حديث نبوي مشهور: «من أخلص لله تعالى أربعين صباحًا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» . والمقصود أن من طهر باطنه واخلى سره لله هذه المدة – ومما يعينه على ذلك قلة الكلام مع الخلوة والذكر – فإن الله يكافئه بأن ينطق لسانه بالحكمة الإلهية من غير تكلف. وهذا مصداق قوله تعالى: ﴿إِلَیۡهِ یَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّیِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ یَرۡفَعُهُۥ﴾ أي أن الكلمة الطيبة (ومن أطيبها ذكر الله) ترتفع إلى الله وتقرّب العبد منه . وقد نُقل عن بعض العرفاء قولهم: “قلب المؤمن حرمُ الله، فلا تُسكن حرم الله غير الله”، وإسكان غير الله في القلب يكون بكثرة الكلام بالدنيا وما لا يعني، فيظلم القلب ويصبح غير صالح لتلقي المعرفة النورانية.

من جهة أخرى، الكلام أيضًا له أثر عرفاني إيجابي عندما يكون ذكرًا لله أو نشرًا للمعرفة الإلهية. يقول الإمام الصادق (ع) في حديث عميق المعنى: «ليس على الجوارح عبادة أخفّ مؤونةً وأفضل منزلةً وأعظم أجرًا عند الله من الكلام في رضا الله ولوجهه ونشر آلائه ونعمائه في عباده». واستدل (ع) على ذلك بقوله: «ألا ترى أنّ الله عز وجل لم يجعل بينه وبين رسله واسطة إلا الكلام؛ يكشف به لهم مكنون علمه ومخزون وحيه» . فالحديث يشير إلى قيمة الكلام الإلهي والوحي، وأنه لولا فضل الكلام ما اختير وسيلةً لإبلاغ أشرف الرسالات. وعليه، فالمتكلم في رضا الله – بتعليم علم نافع أو أمر بمعروف أو تسبيح ودعاء – هو في عبادة عظيمة قد تفوق بعض العبادات البدنية، وهي خفيفة المؤونة (لا تكلّف جهدًا جسديًا كالقيام والصيام). وهذا تأكيد عرفاني أن “النطق راحة للروح” بمعنى أنه يغذي روح المؤمن ويريحها حين يتكلم بما يرضي الله، كما أن “الصمت راحة للعقل” يتيح للعقل فرصة التأمل العميق. فكلاهما – الصمت وكلام الخير – يغذي جوانب مختلفة من كيان الإنسان (روحه وعقله). ومن لطيف ما جاء في الآثار العرفانية أيضًا قول بعضهم: “إذا امتنع اللسان عن الكلام نطق القلب بالأنوار”. وقد أشار الإمام علي (ع) إلى مثل هذا بقوله: «قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه»؛ فالحكيم يصمت فيتفكر بقلبه ثم يتكلم بحكمة.

ومن الآثار الروحية أيضًا صفاء القلب وحفظه من الآفات. إن أكثر الذنوب التي تكدر صفاء القلب منشؤها اللسان: من غيبة وكذب وسخرية وخوض في باطل… فمتى ما سكت الإنسان عن هذه المحرمات صان قلبه من ظلمة الذنب. وقد مرّ معنا الحديث: «إنّ أخفّ العبادة على الجوارح وأفضلها منزلة الكلامُ في رضا الله…» وفي المقابل جاء عن النبي ﷺ: «وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم» ، أي أن أكثر ما يورد الناس موارد الهلاك يوم القيامة هي نتائج كلام ألسنتهم المحرَّم. لذا كان الصمت عبادة عظيمة إذا كان صمتًا عن الحرام. قال الإمام الصادق (ع): «ما عُبد الله بشيءٍ مثل الصمت» . والصمت بهذا المفهوم – أي ترك الكلام الباطل – نوع مجاهدة للنفس يقرّب إلى الله كثيرًا.

3. الآثار الاجتماعية:

الكلام والصمت لهما انعكاس كبير على العلاقات الاجتماعية وبناء المجتمع. فالكلام الطيب هو أساس التواصل الإنساني الراقي ونشر المودة بين الناس، بينما الكلام السيئ يفسد العلاقات ويولّد العداوات. قال تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ – هذه قاعدة اجتماعية ذهبية: خاطبوا الناس بالكلام الحسن اللين لتكسبوا قلوبهم. وجاء أيضًا: ﴿إِلَیۡهِ یَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّیِّبُ…﴾ ، فالكلمة الطيبة لها بركة تصعد إلى السماء وتنعكس رحمة في الأرض. وقد شبّه النبي ﷺ المجتمع بالبنيان الذي تسنده الكلمة الصالحة؛ فقال: «الكلمة الطيبة صدقة» – فهي كالصدقة في تأثيرها الإيجابي. وكثيرًا ما نجد أن كلمة واحدة خيّرة تصلح بين متخاصمين أو تشفي خاطرًا حزينًا أو تشجع إنسانًا على عمل نبيل، فتكون تلك الكلمة صدقة جارية وأثرًا اجتماعيًا عظيمًا.

في المقابل، كثرة الكلام بغير حق بين الناس مصدر غالب للمشكلات. فمعظم النزاعات والقضايا الأخلاقية في المجتمع – من غيبة ونميمة وافتراء وشتم – سببها اللسان المنفلت. لذا حذرت النصوص من آفات اللسان على وحدة المجتمع. قال تعالى: ﴿وَلَوْلَاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا یَكُونُ لَنَاۤ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبْحَـٰنَكَ هَـٰذَا بُهْتَـٰنٌ عَظِیمٌ﴾ – الآية في حادثة الإفك، لكنها عامة تُعلّمنا أدب التثبت والصمت عن إشاعة الكلام بلا علم، وأن نقول عند سماع شائعة سيئة: هذا بهتان عظيم ولا نخوض فيه. ثم قال: ﴿یَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُوا۟ لِمِثۡلِهِ أَبَدًا﴾ فيه تحذير من تكرار فلتات اللسان الخطيرة تلك. فلو طبق المجتمع مبدأ الصمت عن ترويج الشائعات والكلام السيء لتماسك أكثر وزالت الكثير من العداوات.

على صعيد آخر، الصمت في المواضع الاجتماعية الحساسة قد يكون له أثر إيجابي. فمثلاً عند الغضب، الصمتُ يُطفئ نار الفتنة. وعند وجود نقاش حاد غير مجدٍ، قد يكون الصمت حكمة لتجنّب التصعيد. وقد روي: «إذا غضبتَ فاسكت». وسُئل الإمام علي (ع) عن تعريف الحليم (الحليم هو الصبور المتعقّل)، فقال: «هو الذي إذا قدر عفا، وإذا سمعَ باطلاً صمت». أي أن من صفات العقلاء في المجتمع أنهم يتغافلون عن السفاهة ولا يردّون الإساءة بالإساءة، بل يمتصونها بصمت الحكمة. وهذا يعزز السلام الاجتماعي ويقطع سلسلة الإساءة.

بالمقابل، هناك صمتٌ سلبي اجتماعيًّا وهو الصمت عن قول الحق في الشأن العام، كأن يسكت أهل الخير عن منكر شائع أو ظلم يقع على فئة من الناس. هذا السكوت مدمر لأنه يشجع أهل الباطل على التمادي. وقد عدّه الإسلام من أسوأ المواقف؛ فجعل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضامنًا لعدم حصول ذلك. فلا يجوز أن «نسكت على الحق» بحجة المجاملة مثلاً، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس كما مرَّ معنا في المعنى. لذلك نجد العلماء الربانيين لا يسكتون عن بيان الحق مهما كلف الثمن. الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قده) مثلًا ضرب أروع الأمثلة في الجمع بين الصمت والكلام في المجال الاجتماعي؛ فمع كونه معروفًا بالتأمل وقلة الكلام عما لا يعني، انتفض بالكلمة الجريئة في وجه الطغيان في العراق، ودعا إلى نصرة المستضعفين، ولم يسكت على ضيم حتى ختم الله له بالشهادة. كذلك الشيخ القائد عيسى أحمد قاسم (حفظه الله) في البحرين عُرف بخطبه التي تلهب القلوب بالحق، فلم يرضَ بالصمت على امتهان كرامة الشعب وحقوقه، موضحًا أن السكوت على الظلم مُخزٍ للحكومات والمجتمعات . هذه المواقف تُبيّن كيف أن الكلام عند ضرورة إحقاق الحق يصبح شرف الأمة وكرامتها، بينما الصمت حينها خزيٌ اجتماعي.

وخلاصة الأمر في الجانب الاجتماعي: الكلام الحسن يوثّق عُرى المحبة والثقة بين الناس ويبني مجتمعًا متراحمًا متفاهمًا، والصمت الحكيم يقطع دابر كثير من الخلافات ويكسب صاحبه احترام الناس. أما الكلام السيئ فيمزق نسيج المجتمع وينشر العداوة، والصمت السلبي (السكوت على المنكر) يضيّع حقوق الضعفاء ويجرّئ أهل الباطل. من أجل ذلك، جاء في وصية الإمام الصادق (ع) لأتباعه: «كونوا لنا زينًا ولا تكونوا علينا شينًا؛ قولوا للناس حُسنًا، واحفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول» . فهذا توجيه اجتماعي بليغ: أن يكون المؤمن زينًا لمذهبه ودينه بحسن كلامه وحكمته، وألا يشينه بسوء منطقه. فعلينا أن نحفظ ألسنتنا عن فضول الكلام القبيح لنمثل الإسلام خير تمثيل في المجتمع.

خامسًا: إضاءات عرفانية وفلسفية حول فضيلتي الصمت والكلام

تناول الفلاسفة والعرفاء المسلمون ثنائية الصمت والكلام بكثير من التأمل العميق. فرأوا فيها أكثر من مجرد سلوك أخلاقي، بل مفتاحًا لمعرفة النفس والاقتراب من الحقيقة الإلهية.

1. الإنسان بين الصمت والكلام – بُعد فلسفي:

ميّز فلاسفة الإسلام الإنسان بأنه “الحيوان الناطق”، أي الكائن المفكّر المتكلم. فالنطق (أي الكلام والعقل معًا) هو جوهر إنسانية الإنسان. ومن هذا المنطلق، فإن فضيلة الكلام من الناحية الفلسفية متصلة بكمال الإنسان العقلي؛ إذ بالكلام يعبّر العقل عن معارفه ويبلّغ رسالاته. والله تعالى كرّم الإنسان بهذه القدرة تعليمًا وتكليفًا: ﴿عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ﴾ – البيان هنا يشمل القدرة على التعبير عن الحقائق . وبالمقابل، رأى الفلاسفة أن فضيلة الصمت تكمن في كونه يجعل الإنسان يُحكّم عقله قبل أن يطلق العنان للسانه، فيرتقي بذلك عن مستوى الحيوان الذي يصدر أصواتًا بلا عقل. فالصمت يمنح العقل مساحة للنظر والتأمل، ويجنّب الإنسان غوائل اللسان التي قد تناقض عقلانيته. من هنا قال بعضهم: “لسان العاقل وراء قلبه، فإذا أراد القول رجع إلى القلب، فإن كان له قال وإلا فلا. وأما لسان الأحمق فقلبه وراء لسانه، يتكلم ثم يفكر” . فهذا تصوير فلسفي بليغ: العاقل يصمت حتى يفكّر ثم يتكلم، والأحمق يتكلم ثم يندم.

كما تأمل الحكماء في قصة النبي زكريا (ع) حين بشره الله تعالى بيحيى، فجعل آيته أن يصمت ثلاثة أيام عن الكلام مع الناس إلا رمزًا: ﴿۞ قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّیۤ ءَایَةࣰۖ قَالَ ءَایَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَ لَیَالٍ سَوِیࣰّا﴾ . وكذلك مريم (ع) حين حملت بعيسى أُمرت أن تقول: ﴿إِنِّی نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَـٰنِ صَوۡمࣰا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡیَوۡمَ إِنسِیࣰّا﴾ أي صيامًا عن الكلام. توقف العرفاء عند هذه الإشارات القرآنية واعتبروها رمزًا إلى أن التجليات الإلهية العظيمة (مولد نبي) تستدعي صمت البشر وتسليمهم، ليُنطِق الله الآيات بقدرته. فحين صمتت مريم نطق عيسى (ع) في المهد معجزةً تامة . وكأن في ذلك إشارة إلى أن الصمت البشري أمام القدرة الربانية يُفسح المجال لكلمة الله أن تظهر. لذا قال بعض أهل الإشارة: “صمت الظاهر يورث نطق الباطن” ؛ فسكتت مريم فنطق قلبها إيمانًا ونطق وليدها بيانًا.

ومن هذه القصة أيضًا استنبط الفيلسوف العارف السيد حيدر الآملي أن أعظم الصوم هو الصمت عن فضول الكلام . فالله أمر مريم بالأكل والشرب ولم يأمرها إلا بالصمت عن الكلام؛ كأن الصمت هو الصوم الأكمل في تلك اللحظة. وقال: لولا أن أعظم العبادات الصمتُ لما قال النبي «من صمت نجا» ولما ورد في الأثر «إذا بلغ الكلام في الله فامسكوا» – أي إذا وصل الكلام إلى ذات الله وكنهه فأمسكوا لأن العجز عن الإدراك حتمي. وهنا يظهر بُعد فلسفي آخر: عجز اللغة عن احتواء الحقيقة الإلهية. فالمعرفة العميقة بالله تُدرك بالقلب ذوقًا وشهودًا ولا تستطيع الكلمات التعبير عنها. لذلك قال أمير المؤمنين (ع): «من عَرَف الله كَلَّ لسانُه» ؛ أي من عرف الله حق المعرفة عجز لسانه عن وصفه فانقطع وصمت إجلالًا. وهذا يفسر لماذا يكثر أهل المعرفة من الصمت والتأمل؛ لأن ما يختلج في صدورهم من نور اليقين والمعارف اللدنية أوسع من أن تفي به العبارة. ومن أقوالهم: “يا رب جوهر علمٍ لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا” – يعني أن لبعض العلوم الإلهية أسرارًا إن نطق بها العارف لم يفهمها العوام وربما اتهموه، فكان السكوت عنها أولى. من هنا نفهم حكمة أخرى للصمت وهي ستر أسرار التجربة الروحية عن غير أهلها، صونًا لها من التحريف وصونًا لعقول العامة من الحيرة. وهذا لون راقٍ من ألوان الصمت العرفاني؛ حيث يصمت العارف عما لا يُفهم من لطيف علمه.

2. الإسهام العرفاني والعلمي لكبار العلماء:

كبار العلماء الذين جمعوا بين الفقه والعرفان كانت لهم رؤى حول الصمت والكلام. الإمام الخميني (قده) مثلًا – وهو فقيه وعارف – شرح في أحد دروسه الحديثية أن الصمت عن الهذر (الكلام الفارغ) من جنود العقل، وأن كفّ اللسان عن اللغو من كمالات الإنسان، لأن للسان آفات كثيرة ومخاطر . ورأى (قده) أن كثرة الكلام الباطل تسقط صفاء النفس وتضعف الإيمان وتسبب قسوة القلب والغفلة ، بينما الصمت يمنح القلب فرصة ليذكر الله ويتفكر في آلائه مما يرسخ الحكمة فيه . وكان الإمام الخميني في سيرته العمليّة قليل الكلام إلا فيما يفيد، حتى ذكر تلامذته أنه إذا دار نقاش علمي طويل فيه جدل، التزم الصمت يستمع ولا يتكلم إلا عند الضرورة بإجابة أو تعليق موجز. وهذا أدب منه – قدس سره – علّمهم به أن كثرة الجدال مذمومة وأن العلم يُنقل بهدوء واتزان. ولكنه في الوقت عينه ما سكت عن قول الحق ضد طغاة عصره، فكان لسانُه سيفًا بتارًا بكلمات الحق التي أطلقها في وجه الشاه، وصدع بالثورة الإسلامية غير هيّاب. فجمع – رضوان الله عليه – بين صمت الحكمة في موضعه وكلام الحق في موضعه أتمَّ جمع.

الإمام الخامنئي (حفظه الله) كذلك كثيرًا ما يشير في خطبه إلى أهمية ضبط اللسان على مستوى الفرد والمجتمع. فهو ينتقد بشدة “الصمت المخزي” عندما يتعلق الأمر بقضايا الأمة الكبرى ، ويحثّ على أن يصدح العلماء وكافة الناس بالحق نصرةً للمظلومين. وفي الوقت نفسه يُنبه الشباب وعموم الناس إلى اجتناب اللغو والكلام الفاسد الذي يبث الفرقة أو يشيع الفاحشة، مؤكدًا أن الإعلام المغرض مثلًا يضر المجتمع بكثرة نشره الباطل، وأن العلاج يكون بالكلمة الصادقة المسؤولة أو بالسكوت عن ترويج الشائعات. فهو يدعو إذن إلى حرية الكلمة المسؤولة: الحرية في قول الحق، والمسؤولية في تجنب الباطل واللغو.

السيد محمد باقر الصدر (قده) ترك لنا قدوة في التوازن بين الصمت والكلام. فمع زهده وورعه المعروفَين (حيث كان قليل الكلام منشغلًا بالتأمل العلمي والروحي)، تجده في ساحات التعليم والحركة الاجتماعية يُكثر من الكلام النافع؛ فيشرح لتلامذته أدق المسائل، ويخطب بالجماهير مُلهبًا حماسهم للإصلاح. وقد ذكر بعض من عايشه أنه كان شديد التحفظ على لسانه فلا ينطق إلا بخير، وربما يمضي وقتًا في صمتٍ وهو في جمعٍ من الناس، فإذا تكلم أنصت له الجميع لندرة كلامه ودقة معانيه. وهذا مصداق الحكمة: “الصمت يمنحك هيبة والكلام الحكيم يمنحك تأثيرًا” – وكلاهما كان للسيد الصدر. وفي شهادته أبلغ مثال على أنه ما سكت عن الحق حتى آخر لحظة في حياته، فصدع بكلمة الحق عند طاغية عصره وضحى بروحه في سبيلها، فصلوات الله عليه.

السيد عبد الأعلى السبزواري (قده) – المرجع والعالم العارف – كان معروفًا بطول صمته وكثرة تفكره. يروي المقربون أنه كان يمضي الساعات في تأمل وصمت، ويجد في ذلك “حلاوة ولذة” روحية فائقة . وهذه شهادة على ما يجده العارف من أنس بالله في خلوته وصمته. وقال السيد السبزواري كلمةً عرفانية: “العاشق إذا صمت هلك، والعارف إذا نطق هلك” ، يفهم منها أن المحبّ لله لا يطيق الصمت عن ذكر محبوبه وإلا مات شوقًا، وأما العارف بالله فإن التكلم عن أسرار معرفته قد يُهلكه (بمعنى يفقد حاله ومقامه) لأنه مأمور بسترة تلك الأسرار، فاكتفى بالصمت الواعي. فهذه معادلة لطيفة: المحبّ كثير الذكر والكلام عن محبوبه، والعارف كثير الصمت إلا عن ذكر الله ظاهرًا وباطنًا.

العلامة الطباطبائي (قده) صاحب تفسير الميزان أحد أعلام الجمع بين العلم والعرفان. يُنقل عنه ما ذكرناه أنه نصح تلميذًا بالصمت أربعين يومًا لجني ثمار صفاء القلب. وفي تفسيره للقرآن أشار إلى كثرة الروايات في مدح الصمت وذم كثرة الكلام في كتب السنة والشيعة ، واستشهد بأقوال الصحابة والحكماء في ذلك. ومما أورده أن كثرة الكلام بغير ذكر الله مذمومة لأنها تؤدي إلى الغفلة ، وأنه ما من كلمة ينطق بها الإنسان إلا ويكتبها الملكان رقيب وعتيد بدقة، حتى كلمات العادة والمزاح . وهذا يلفت نظر قارئ تفسيره إلى مسؤولية الكلمة. وعُرف عن العلامة الطباطبائي نفسه أنه كان قليل الكلام جدًا، وإذا طرح عليه سؤال أجاب بجواب موجز عميق ثم يعود إلى صمته. ومن يقرأ سيرته في كتاب الشمس الساطعة يلحظ كيف أن سمته كان الصمت مع ابتسامة دائمة وصدر رحب؛ فجمع بين الصمت ولين الجانب، مما يدل على كمال تربيته الروحية – فبعض الناس قد يصمت لكنه يُشعر من حوله بالتجهم أو العزلة، أما العارف الحقيقي فيصمت ولسانه ساكت لكن أخلاقه ناطقة بالمحبة والتواضع.

هذه الإضاءات العرفانية والفلسفية تؤكد لنا أن فضيلة الصمت والكلام ليست مجرد آداب سطحية، بل هي مرتبطة بعمق معرفة النفس ومعرفة الله. فالصمت باب الحكمة والتأله، والكلام الهادف نور تبليغ ودعوة. وكل منهما سلاح ذو حدين إن أسيء استخدامه. لذا قرر الحكماء: “الكلمة أسيرة في وثاقك فإذا نطقت بها صرتَ أنتَ أسير وثاقها”. فعلى الإنسان أن يزن كلمته قبل أن يتكلم؛ فإن كانت حقًا أطلقها فنال بها الحرية والفلاح، وإن كانت باطلاً بقِي أسير احتمالها والإثم المترتب عليها.

سادسًا: موقف الإسلام الأصيل من الإفراط في الكلام أو الإفراط في الصمت

بعد هذا العرض، يظهر بجلاء أن الإسلام دين التوازن والوسطية، فلا مكان فيه للإفراط أو التفريط في أي جانب، بما في ذلك الكلام والصمت. فالإسلام الأصيل يرفض ثرثرة اللسان وكثرة الكلام بلا ضابط، وفي الوقت نفسه يرفض الصمت السلبي المطلق الذي يعطل الدور الاجتماعي والدعوي للإنسان. والمطلوب هو التوسط الحكيم.

  • الإفراط في الكلام: حذرت النصوص من عواقب اللسان حين يستهتر صاحبه بإطلاقه بلا كابح. جاء عن رسول الله ﷺ: «إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان» – إذ قد يستخدم المرء قدرته الكلامية للإضلال أو الرياء فيؤذي مجتمعه ودينه. وكثرة الكلام تزيد احتمال الوقوع في الخطأ. قال الإمام علي (ع): «من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلَّ حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومن قلَّ ورعه مات قلبه» . سلسلة واضحة تبين أن كثرة الكلام غير المنضبط بداية سلسلة انهيار أخلاقي: زلات ولسان، ثم قلة حياء (لأن اللسان الفالت يجرّ صاحبه للوقاحة)، ثم قلة وَرَع عن المحارم، ثم موت القلب بالذنوب. فلا عجب أن كانت كثرة الكلام من علامات ضعف الإيمان وقلة التقوى. لذلك وجّهنا القرآن أن لا نتحدث فيما لا نعلم: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَـٰۤئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولࣰا﴾ – أي لا تتبع بلسانك ما ليس لك به علم . فالمؤمن الصادق لا يتكلم إلا بعلم أو يسكت بحلم.
  • الإفراط في الصمت: بالمقابل، السكوت دائمًا وأبدًا ليس محمودًا. قد يتوهم بعض الناس أن الأفضل الانزواء والصمت مطلقًا، فيترك أمر الدعوة والنصيحة والأمر بالمعروف، وربما يترك حتى المطالبة بحقه أو الدفاع عن المظلومين بحجة التفرغ للصمت أو التعبد الفردي. هذا خطأ جسيم لأن فيه تعطيلًا لوظائف اجتماعية ودينية كبرى. الأنبياء والأئمة (ع) أعظم قدوات لنا؛ كانوا أهل ذكر وتأمل، ومع ذلك كانوا أفصح المتكلمين بالحق وأشجعهم في تبليغ رسالة الله للخلق. لم يُبعثوا بالسكوت بل بالكلام كما مر في حديث الإمام زين العابدين. فكيف يصح لمدّعي الاقتداء بهم أن يسكت عن إرشاد الناس أو عن نصرة الحق؟! إن الإسلام دين الحركة والإصلاح في المجتمع، وهذا لا يتم بغير الكلمة المخلصة الهادفة. حتى عباداتنا الجماعية – كصلاة الجمعة والجماعة والعيدين – شُرع فيها الخطب والكلمات لتعليم الناس وتوعيتهم. فالصمت المفرط والانطواء قد يؤدي إلى التقصير في الواجبات الشرعية الاجتماعية. وقد قال الإمام علي (ع): «لولا الخطباء في الجمعات، والعلماء في المشاهد، لانساق الناس بعد زمان إلى الجهالة». فلو سكت العلماء والدعاة لانغمس العامة في الجهل والضلال. إذن فموقف الإسلام واضح: لا رهبانية انعزال وصمت تام في الإسلام، بل مشاركة إيجابية في الحياة بكلمة الخير.
  • الإسلام يدعو إلى التوازن: نجد التعاليم الإسلامية دائمًا تربط الفضيلة بوضع الشيء في موضعه المعتدل. روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «النوم راحة للجسد، والنطق راحة للروح، والسكوت راحة للعقل» . ففي هذه الرواية جمعٌ بديع لمنافع الأضداد: النوم (ضد اليقظة) فيه راحة للجسد، والنطق (ضد السكوت) فيه راحة للروح – لأن الروح ترتاح بالتعبير عما يؤلمها وبمناجاة ربها وبإيصال المعرفة لغيرها –، والسكوت (ضد الكلام) فيه راحة للعقل – لأنه يمنحه فرصة التأمل كما أسلفنا. فكأنه (ع) يقول إن الإنسان يحتاج إلى مزيج من هذه الحالات المختلفة ليحقّق التوازن: يحتاج نومًا ويقظة، ونطقًا وصمتًا. فالراحات تتوزع على هذه المتقابلات ولا تجتمع في جانب واحد دائمًا. ولهذا كان من دعائه (ع): «اللهم ارزقني توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وصدق النية… والوسط في الغنى والفقر… وكمال الانقطاع إليك». والوسطية مطلوبة حتى في الكلام والصمت: لا صمت مطبق يجعلنا نعجز عن خدمة الحق، ولا كلام منفلت يجعلنا نقع في الباطل. قال أمير المؤمنين (ع): «الصمت يُكسِبك الوقار، والكلام يُكسبك المحبة، فكن وقورًا في كلامك، محبوبا في صمتك». وهذه معادلة لطيفة تشير إلى التوازن.

وفي الممارسات العملية، ندب الإسلام إلى مجالس الذكر والعلم التي يكثر فيها الكلام النافع، وفي نفس الوقت ندب إلى الاعتكاف والخلوة في المساجد التي يكثر فيها الصمت والتفكر. فكلاهما عبادة بحسب نية صاحبها. روى أبو ذر الغفاري عن رسول الله ﷺ أنه قال له: «يا أبا ذر، إملاء الخير خير من الصمت، والصمت خير من إملاء الشر» . فهذا ميزان دقيق: الكلام حين يكون خيرًا فهو أفضل من السكوت، أما الكلام الشرير أو اللغو فإن السكوت خير منه. وقال أيضًا: «يا أبا ذر، اترك فضول الكلام، وحسبُك من الكلام ما يبلّغك حاجتك» . أي تكلم بقدر ما تحتاج وبما يفيدك، ودع الزيادة. وجاء أيضًا: «إن الله عند لسان كل قائل، فليتق اللهَ امرؤٌ وليعلم ما يقول» . ختم النبي ﷺ هذه الوصية لأبي ذر بتذكيره أن الله رقيب على كلامنا، يسمع ويراقب، فعلينا أن نتقيه فلا نقول إلا خيرًا. فما أحرانا أن نجعل هذه الوصية شعارًا في حياتنا اليومية: لن نتكلم إلا بخير، فإن شككنا في خيرية كلامنا فالصمت أولى.

خاتمة:

يمكننا أن نستخلص من مجمل ما سبق أن الإسلام رسم منهجًا قويمًا للتعامل مع نعمة النطق: منهج يضبط اللسان بالعقل والإيمان. فالكلمة في الإسلام مسؤولية وأمانة، وهي سلاح وبناء في آن واحد؛ إن استُعملت في الخير كانت بناءً للأفراد والمجتمعات، وإن أُسيء استخدامها كانت معول هدم وآفةً تحصد الحسنات وتزرع السيئات. وكذلك الصمت سلاح ذو حدين؛ إن جاء في موضعه كان عبادةً حكيمةً تورث صاحبها السلامة والحكمة، وإن جاء في غير موضعه كان تقاعسًا وإثمًا. من هنا نفهم لما كثرت النصوص التي تمتدح الصمت وتحث عليه، إلى جانب نصوص تمدح الكلام الصالح وتوجبه: فكلُّ نصٍّ منها جاء ليعالج حالة أو موضعًا مخصوصًا . والإسلام يجمعها ضمن خارطة متوازنة يتحقق بها خير الدنيا والآخرة للمؤمن. وكيف لا، وربّنا جل وعلا وصف المؤمنين بأنهم ﴿وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ﴾ ، وجعل شعارهم أيضًا: ﴿وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلصَّبۡرِ﴾ – والتواصي بالحق لا يكون إلا بالكلام الصادق الشجاع، والتواصي بالصبر قد يكون بالصمت الحكيم على ما يواجهه المؤمن. نسأل الله تعالى أن يرزقنا حكمة اللسان، فننطق بما فيه رضاه، ونصمت عما نهانا عنه، إنه سميع مجيب.

المصادر والمراجع:

  1. القرآن الكريم.
  2. نهج البلاغة، خطب الإمام علي بن أبي طالب (ع)، حكمة رقم … (مذكورة ضمن السياق).
  3. الكليني، الكافي – باب فضل الصمت وآفات اللسان.
  4. المجلسي، بحار الأنوار – ج 68 (أبواب الصمت والكلام). الأحاديث مقتبسة منه معزوة لمصادرها الأصلية كالاحتجاج والأمالي والخصال وغيرها.
  5. الريشهري، ميزان الحكمة – باب الصمت والكلام. وردت فيه أحاديث نبوية شريفة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» ، «من صمت نجا» ، وحديث العالم والجاهل وغيرها مع تخريجها.
  6. النووي، شرح صحيح مسلم – (شرح حديث «فليقل خيرًا أو ليصمت») .
  7. الغزالي، إحياء علوم الدين – كتاب آفات اللسان .
  8. حيدر الآملي، مقالة في فضل الصمت ضمن كتابه (جامع الأسرار) – مقتطفات شارحة لمقام الصمت العرفاني .
  9. الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل – فصل الصمت والهذر؛ وفيه قال: “الصمت عن الباطل من جنود العقل” وذكر أحاديث أبي ذر ونهج البلاغة .
  10. تقريرات دروس الأخلاق للإمام الخامنئي، ومواقفه وخطبه (مثال: نقده للصمت على جرائم الاستكبار) .
  11. سيرة العلماء: السيد محمد باقر الصدر، السيد السبزواري، العلامة الطباطبائي – مذكورة في سياق المقال نقلًا عن مصادر تراجمهم وغيرها.
  12. وسائل الشيعة (الحر العاملي) – أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وباب حفظ اللسان.
  13. موسوعة الأخلاق الإسلامية – باب الصمت (موقع الدرر السنية)، وفيها تعريف الصمت وفوائده .
  14. مقالات متنوعة: شبكة المعارف الإسلامية – دور السكوت في تعميق الفكر ، موقع الكفيل – جمال الصمت في القرآن الكريم ، وغيرها.