بين العذاب والنعيم: رحلة تأمل في أسرار سورة الدخان
- 14/11/2024
- تم النشر بواسطة: مصطفى الحوري
- الفئة: دراسات القرآنية

المقدمة:
تعد سورة الدخان من السور التي تجسد معاني الجزاء والعاقبة، فهي تعرض صورًا مهيبة لعذابات أهل النار في مقابل نعيم أهل الجنة، في دعوة إلى التفكر والتأمل في المصير الأخروي. تأتي الآيات في هذه السورة بأسلوب فريد، حيث تبرز مظاهر العذاب بأدق تفاصيله وتصور نعيم الجنة وهناء أهلها بأسلوبٍ جليّ يستحث القلوب والعقول للتأمل في أثر الإيمان والصلاح على الحياة الأخروية. في هذا المقال، سنعرض مقارنة بين عذابات أهل النار من جهة ونعيم أهل الجنة من جهة أخرى، مستندين إلى التفاسير اللغوية والمعنوية للآيات.
مقارنة بين عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة:
أولا: عذابات أهل النار
إن شجرت الزقوم (43) طعام الأثيم (44) كالمهل يغلى في البطون (45) كغلى الحميم (46) خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم (47) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم (48) ذق إنك أنت العزيز الكريم (49) إن هذا ما كنتم به تمترون (50)
“الزقوم” – على قول المفسرين وأهل اللغة، اسم شجرة لها أوراق صغيرة وثمرة مرة خشنة اللمس منتنة الرائحة، تنبت في أرض تهامة من جزيرة العرب، كان المشركون يعرفونها، وهي شجرة عصيرها مر، وإذا أصابت البدن تورم.
“الأثيم” من مادة إثم، وهو المقيم على الذنب، والمراد هنا الكفار المعاندون المعتدون، المصرون على الذنوب والمعاصي المكثرون منها.
“المهل” – على قول كثير من المفسرين وأرباب اللغة – الفلز المذاب، وعلى قول آخرين – كالراغب في المفردات – هو دردي الزيت، وهو ما يترسب في الإناء، وهو شيء مرغوب فيه جدا، لكن يبدو أن المعنى الأول هو الأنسب.
“الحميم” هو الماء الحار المغلي، وتطلق أحيانا على الصديق الوثيق العلاقة والصداقة، والمراد هنا هو المعنى الأول.
على أي حال، فعندما يدخل الزقوم بطون هؤلاء، فإنه يولد حرارة عالية لا تطاق، ويغلي كما يغلي الماء، وبدل أن يمنحهم هذا الغذاء القوة والطاقة فإنه يهبهم الشقاء والعذاب والألم والمشقة.
ثم قال تعالى:
خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم.
“فاعتلوه” من مادة العتل، وهي الأخذ والسحب والإلقاء. وهو ما يفعله حماة القانون والشرطة مع المجرمين المتمردين، الذين لا يخضعون لأي قانون ولا يطبقونه.
“سواء” بمعنى الوسط، لأن المسافة إلى جميع الأطراف متساوية، وأخذ أمثال هؤلاء الأشخاص وإلقاؤهم في وسط جهنم باعتبار أن الحرارة أقوى ما تكون في الوسط، والنار تحيط بهم من كل جانب. ثم تشير الآية التالية إلى نوع آخر من أنواع العقاب الأليم الذي يناله هؤلاء، فتقول: ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم.
ثانياً: نعيم أهل الجنة
إن المتقين في مقام أمين (51) في جنت وعيون (52) يلبسون من سندس وإستبرق متقبلين (53) كذلك وزوجناهم بحور عين (54) يدعون فيها بكل فكهة آمنين (55) لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم (56) فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم (57).
نلخصها في سبعة أقسام:
الأولى: هي إن المتقين في مقام أمين على هذا فلا يصيبهم أي إزعاج أو خوف، بل هم في أمن كامل من الآفات والبلايا، من الغم والأحزان، ومن الشياطين والطواغيت.
الثانية: إن التعبير بالجنات يمكن أن يكون إشارة إلى تعدد الحدائق والبساتين التي يتمتع بها كل فرد من أهل الجنة، فهي تحت تصرفه، أو تكون إشارة إلى مقاماتهم المختلفة ودرجاتهم المتفاوتة، لأن حدائق الجنة وبساتينها غير متساوية، بل تختلف باختلاف درجات أصحاب الجنة.
الثالثة إلى ملابسهم الجميلة، فتقول: يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين.
“السندس” يقال للأقمشة الحريرية الناعمة الرقيقة، وأضاف البعض قيد كونها مذهبة. و”الإستبرق” هي الأقمشة الحريرية السميكة، ويعتقد بعض المفسرين وأهل اللغة أنها معربة من الكلمة الفارسية (أستبر) أو (ستبر) أي السميك. ويحتمل أن يكون أصلها عربيا مأخوذا من البرق أي التلألؤ، حيث أن لهذه الأقمشة بريقا خاصا.
الرابعة إلى أزواجهم، فتقول: كذلك وزوجناهم بحور عين.
“الحور” جمع حوراء وأحور، وتقال لمن اشتد سواد عينه، واشتد بياض بياضها. و”العين” جمع أعين وعيناء، أي أوسع العين، ولما كان أكثر جمال الإنسان في عينيه، فإن الآية تصف عيون الحور العين الجميلة الساحرة. وقد ذكرت محاسنهن الأخرى بأسلوب رائع في آيات أخرى من القرآن.
الخامسة لأصحاب الجنة فقالت: يدعون فيها بكل فاكهة آمنين.
فلا توجد في الجنة تلك المشكلات والصعوبات التي كانوا يعانونها في تناول فاكهة الدنيا، فإنها قريبة منهم وفي متناولهم، وعلى هذا فليس هناك بذل جهد لاقتطاف الأثمار من الأشجار العالية، إذ قطوفها دانية.
خلود الجنة ونعمها هي النعمة السادسة من نعم الله سبحانه على المتقين، لأن الذي يقلق فكر الإنسان عند الوصال واللقاء هو خوف الفراق، ولذلك تقول الآية: لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى.
وأخيرا يبين القرآن الكريم السابع من النعم وآخرها، فيقول: ووقاهم عذاب الجحيم.
فإن كمال هذه النعم إنما يتم عندما يخلو فكر أصحاب الجنة من احتمال العذاب، وعدم انشغالهم به، لئلا يقلقوا فيتكدر صفوهم فلا تكمل تلك النعم حينئذ.
وهذا التعبير يشير إلى أن المتقين إن كانوا خائفين مما بدر منهم من هفوات، فإن الله سبحانه سيعفو عنها بلطفه وكرمه، ويطمئنهم بأن لا يدعوا للخوف إلى أنفسهم سبيلا. وبتعبير آخر، فإن غير المعصومين مبتلون بالهفوات شاؤوا أم أبوا، وهم في خوف وقلق منها ما داموا غير مطمئنين بشمول العفو الإلهي لهم، وهذه الآية تمنحهم الاطمئنان والراحة والأمان من هذه الجهة.
والحمد لله رب العالمين
“فياذا المَنِّ وَلا يُمَنُّ عَلَيكَ مُنَّ عَلَيَّ بِفَكَاكِ رَقَبَتي مِنَ النّارِ فيمَنْ تَمُنُّ عَلَيهِ وَأدخِلني الجَنَّةَ بِرَحمَتِكَ يا أرحَمَ الرَّاحِمينَ”
الكاتب:mustafaalhoorey12@gmail.com
تعليق واحد
اترك تعليقاً إلغاء الرد
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.
طرح موفق نسال الله ان يوفقكم لطرح المزيد من الدراسات القرآنية