التحليل القرآني للصدقة
ورود الصدقة في القرآن: وردت الصدقة بمعناها الاصطلاحي (الإنفاق في سبيل الله) في آيات عديدة من القرآن الكريم، وتنوعت سياقاتها بين الصدقات الواجبة (كالزكاة) والصدقات المستحبة (التطوعية). في اللغة، ترتبط كلمة صدقة بجذر صدق للدلالة على صدق الإيمان؛ فكأنَّ المتصدِّق يصدق إيمانه بعمله . أما الإنفاق (من نفق) فهو الإخراج وبذل المال في وجوه الخير، وجاء في القرآن عامًا ليشمل الواجب والمندوب . وأما الزكاة (من زكو: نما وطهر) فقد خُصّت في الاستعمال القرآني بالصدقة المفروضة التي تطهّر المال والنفس . وكذلك كلمة برّ في القرآن تشير إلى الخير الشامل أو التقوى، واقترنت بتحقيق الإنفاق؛ قال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (آل عمران: 92)، أي لن تحققوا كمال الخير والإيمان حتى تبذلوا مما تحبون من أموالكم .
أنواع الصدقة في القرآن: يمكن تصنيف آيات الصدقة إلى فئات متعددة: (1) آيات الأمر بالإنفاق وفضله: مثل قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ (البقرة: 245) تشبيهًا لباذل الصدقة بالمقرض لله تعالى، مع وعد المضاعفة . ومثل آية: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ … كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ …﴾ (البقرة:261) التي تضرب مثلًا في مضاعفة الأجر. (2) آيات المصارف والصدقة الواجبة: أبرزها ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ…﴾ التي حصرت مصارف الزكاة بثمانية أصناف . ومن الآيات أيضًا قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ (التوبة:103) وقد بيَّن المفسرون أنها نزلت في زكاة المال المفروضة . (3) آيات الصدقة التطوعية وآدابها: كقوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ (البقرة:271)، حيث مدح الله كلاًّ من الإعلان بالصدقة وإخفائها . فإظهار الصدقة فيه دعوة وقدوة حسنة تشجّع الآخرين على البذل، وتطييب لنفوس المحتاجين عندما يرون التكافل في مجتمعهم . وأما إخفاء الصدقة فـ«أبعدُ من الرياء والمنّ والأذى» ويحفظ كرامة الفقير من الخزي . ولهذا نهى القرآن عن المنّ والأذى بعد الصدقة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى﴾ (البقرة:264)، فالإحسان مقرون بحفظ مشاعر الفقير. (4) آيات الابتلاء والمنافقين بالصدقة: مثل الآية التي عاتب فيها بعض المسلمين على التثاقل عن صدقة التطوع قبل مناجاة النبي ﷺ: ﴿فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ (المجادلة:12) ثم عُفي عنهم في الآية التالية. ومثل قوله عن المنافقين: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ…﴾ (التوبة:58) أي يطعنون في تقسيم النبي ﷺ للصدقات . فهذه الفئات من الآيات ترسم معالم شاملة لمفهوم الصدقة في القرآن: فضلها العظيم، وفرضيتها في أموال مخصوصة، ومصارفها المحددة، وآدابها وشروطها المعنوية.
الثمرة الروحية والاجتماعية: يؤكد القرآن على أثر الصدقة في تزكية النفس وتطهيرها من رذيلة البخل وحب المال . قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ ، فدلَّ على أن إخراج الصدقة يؤدي إلى تطهير النفوس من أوساخ الشحِّ وتنمية خصلة السخاء فيها . كما أن في الصدقة تآلفًا اجتماعيًّا وتخفيفًا لآلام الفقراء؛ إذ يشعرون بأن في المجتمع من يرحمهم ويعيلهم ، مما يزيل اليأس من نفوسهم ويشد أواصر الأخوة بين الغني والفقير. ولهذا عدَّ القرآن الإنفاق في سبيل الله من صفات المؤمنين المتقين الأبرار، وجعله مقياسًا لنيل البِرّ والخير، كما مرَّ في آية آل عمران.
التحليل التفسيري (في ضوء التفاسير الشيعية)
اهتمت التفاسير الشيعية المعتبرة بآيات الصدقة وأبرزت معاني خاصة مستفادة من روايات أهل البيت (ع) ومن فهمهم الشمولي. في تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي، يُلاحظ التركيز على البُعد الاجتماعي والروحي للصدقة. مثلًا عند تفسير قوله تعالى ﴿إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ…﴾ (البقرة:271)، يشرح أن إظهار الصدقة فيه «دعوةٌ عمليّة إلى المعروف، وتشويقٌ للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييبٌ لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أن في المجتمع رجالًا رحماء بحالهم… فيؤدي ذلك إلى زوال اليأس… وحصول النشاط لهم» . وفي المقابل، إخفاؤها أبعد عن الرياء وصون لكرامة المحتاجين، فخلص إلى قاعدة وهي «فصدقةُ العَلَن أكثرُ نتاجًا، وصدقةُ السِّر أخلصُ طهارةً» . كما أكد الطباطبائي أن الزكاة المالية ركنٌ من أركان الدين، واستشهد بتظافر الروايات من طرق أئمة أهل البيت على ذلك . وعند تفسير آية التطهير والتزكية (التوبة:103) ذكر لطيفة لغوية أن قوله ﴿خذ من أموالهم﴾ جاء بصيغة الجمع «من أصناف أموالهم» إشارةً إلى أصناف الأموال المزكّاة (النقدين، والأنعام، والغلات) ، مما يتوافق مع تفصيل الفقهاء لموارد الزكاة.
أما تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (القرن 6 هـ)، فقد مزج بين البيان اللغوي والنقلي مع التركيز على روايات أهل البيت عند اختلاف التفاسير. على سبيل المثال، عند تفسير آية ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ…﴾ (التوبة:60) نقل أقوال الفقهاء في أصناف المستحقين، ثم أشار إلى رأي أئمة أهل البيت (ع) في تفاصيلها: فذكر عن الإمام الباقر (ع) أن سهم المؤلَّفة قلوبهم ثابت «بشرط وجود إمام عادل يؤلّفهم» ، وذكر عن أصحابنا (علماء الإمامية) أنهم يجيزون من سهم ﴿وفي الرقاب﴾ شراء العبد المؤمن وإعتاقه ، وأن ﴿في سبيل الله﴾ عند أصحابنا يشمل جميع مصالح المسلمين وليس الجهاد المسلّح فقط . هذه إضافات مفهومية تميز التفسير الشيعي، حيث يتسع معنى سبيل الله ليشمل بناء المساجد والقناطر ونحوها من المشاريع الخيرية . كذلك انفردت التفاسير الشيعية بتأكيد بعض أسباب النزول الخاصة بأهل البيت (ع) في آيات الصدقة، كتفسيرهم لقوله تعالى ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ… وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة:55) بأنه نزل في الإمام علي (ع) حين تصدَّق بخاتمه وهو راكع. فقد روى أبو جعفر الباقر وأبو عبد الله الصادق (عليهما السلام) وجميع علماء الإمامية أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب خاصة، بينما قال بعض المفسرين الآخرين إنها عامة في المؤمنين. فالتفسير الشيعي هنا يضيف بُعد الولاية المرتبط بهذا العمل الخيري الفريد، ويرى في الآية دليلًا على رفعة مقام الإمام علي (ع) بحيث قرن الله ولايته بولاية رسوله في سياق العطاء في سبيل الله. وبالمثل، أولت تفاسيرهم اهتمامًا بسورة هل أتى (الإنسان) لارتباطها بصدقة أهل البيت (ع) بطعام إفطارهم، وأجمعت على أنها نزلت تمجيدًا لإيثارهم العظيم . يقول الطبرسي وغيره إن السورة خلّدت موقفًا تاريخيًّا تصدَّق فيه الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين وفضّة (عليهم السلام) بطعامهم ثلاثة أيام متوالية للسائل والمسكين والأسير، فنزلت الآيات: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ۞ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّٰهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ تكريمًا لهم ولموقفهم الإيثاري . هذا اللون من التفسير يبرز ارتباط شأن النزول بالتطبيق العملي للآيات في حياة أهل البيت، وهو ما يضفي عمقًا خاصًا على مفهوم الصدقة في النظر الشيعي.
الروايات عن أهل البيت (ع) في فضل الصدقة وتطبيقاتها
تزخر مصادر الحديث الشيعية بروايات تبرز فضل الصدقة وآدابها، وقد ورد كثير منها عن النبي الأكرم (ص) وأئمة أهل البيت (ع). من أشهر ما رُوي: قول النبي محمد (صلى الله عليه وآله): «تصدقوا ولو بشقِّ تمرة» لتحريض الناس على البذل مهما قل، وقوله: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» . وحثّ (ص) على عدم الاستحياء من إعطاء القليل، لأن “ما نقص مالٌ من صدقة” أي أن الصدقة لا تنقُص الرزق بل تزيده بركةً . وفي حديث آخر مروي عن الرسول (ص): «استنزلوا الرزق بالصدقة» أي استجلبوا زيادة الرزق ببذل الصدقة، «وداووا مرضاكم بالصدقة» ؛ فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) قوله عن جده رسول الله: «داووا مرضاكم بالصدقة» ، مشيرًا إلى تأثير الصدقة في رفع البلاء والمرض بإذن الله. وروى أيضًا: «الصدقة تدفع البلاء المبرَم» أي المقدَّر وقوعه، «فداووا مرضاكم بالصدقة» . وكذلك: «الصدقة تدفع ميتة السوء عن صاحبها» مثل الموت حرقًا أو غرقًا ونحوها. وجاء عن الإمام علي (ع) مرفوعًا: «صدقة السر تطفئ غضب الرب» ، وهي رواية تلقّاها الشيعة والسنة على حد سواء، وتؤكد أن للصدقة الخفية أثرًا عظيمًا في دفع نقمة الله تعالى عن العبد. ومن وصايا الإمام الصادق (ع) أيضًا: «لا صدقةَ وذو رَحِمٍ محتاج» ؛ بمعنى أن الإنفاق على القريب المحتاج مقدَّم، فلا يُترك القريب الفقير ويُتصدَّق على الغريب. وقد أكدت روايات عديدة هذا المعنى حتى قال الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع): «أفضل الصدقة على الرحم الكاشح» أي الذي يعاديك، ففيها صلة للرحم وتأليف للقلب.
أخلاقية المتصدق وآدابه في الروايات: شدّدت أحاديث أهل البيت على أهمية نية المتصدق وإخلاصه، وحذّرت من المنّة على الفقير. روي عن الإمام الصادق (ع) أنه رأى رجلًا يعطي فقيرًا فتصدّق عليه، فقال له: «أنت أحوج إلى ما أعطيته في آخرتك من حاجة ذلك الفقير إليه في دنياه» . وهذه كلمة بليغة تُظهِر وعي أهل البيت (ع) بأن الفضل الحقيقي في الصدقة هو للفقير على الغني؛ لأن الفقير حين يقبل مال الصدقة إنما يمنح الغني فرصة لتزكية نفسه وماله، ولولا قبوله لتبقى ذنوب الغني وأوساخ ماله بلا تطهير . لذا ورد عنهم (ع) أن صدقة السر تُطفئ غضب الله لأنها خالصة بلا رياء ، وأن العمل يمتد أثره المعنوي إلى المتصدق نفسه أولًا. وروى الإمام الباقر (ع) أن الصدقة تقع في يد الله قبل يد الفقير ، وفي ذلك معنى روحاني عميق بأن الله تعالى يتلقّى صدقة العبد ويثيب عليها مباشرة، مما جعل بعض الأئمة يقومون بتقبيل يد السائل بعد إعطائه الصدقة كرمز لأنها وصلت يد الرحمن أولًا . ومن هنا جاءت الوصية النبوية: «لا تُبطِلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى»، فالمنّ يُذهِب بأجر الصدقة لأنه يجعل الغني متوهمًا أنه صاحب فضل، بينما الحقيقة -وفق منظور أهل البيت العرفاني- أن الفقير هو صاحب الفضل على الغني بقبولها .
تطبيقات عملية في سيرة أهل البيت (ع): جسّد أهل البيت قيمة الصدقة عمليًّا في حياتهم. فضربوا أروع الأمثلة في الإيثار والإنفاق، ابتغاء وجه الله. من ذلك تصدُّق الإمام علي (ع) بخاتمه وهو في الصلاة راكع، فنزلت الآية الكريمة تشيد بهذا العمل وتجعله علامة مميزة للمؤمن الكامل. وكذلك قصة إطعام أهل البيت (ع) (علي وفاطمة والحسنين) مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا بثلاثة أقراص شعير كانت كل ما يملكون للإفطار، خلال ثلاثة أيام متتابعة وهم صيام، وآثروا بها هؤلاء المحتاجين وباتوا طاوين، فنزلت فيهم سورة الإنسان تمدح صنيعهم وتعدّد جزاءهم العظيم عند الله . وقد عُرف عن الإمام زين العابدين (ع) كثرة صدقاته سرًّا بالليل؛ إذ كان يحمل جراب الخبز على ظهره تحت جنح الظلام ويوزعه على بيوت الفقراء في المدينة دون أن يعرفه أحد، حتى إنهم كانوا يقولون عند مجيئه خفيّة: «جاء صاحب الجراب». ولما توفي (عليه السلام) وغسّلوه وجدوا آثارًا على ظهره من ثقل ما كان يحمله . قال أبو حمزة الثمالي: «كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز بالليل على ظهره فيتصدّق به ويقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب» . وبعد وفاته انقطع ذلك العطاء فعرف الناس أنه هو الذي كان يصلهم في الخفاء. وكذلك رُوي أن الإمام موسى الكاظم (ع) كان له جار فقير يسيء إليه، فكان (ع) يرسل له الصدقة سرًّا وهو لا يدري، فلما علم الجار بعد وفاة الإمام حزن لذلك. وهذه الأمثلة وغيرها كثير تظهر أن الإحسان والصدقة كانت سمة بارزة في سيرة الأئمة؛ فكانوا يرون خدمة الفقراء والمعوزين جزءًا من مسؤوليتهم الدينية وسمتهم الأخلاقية. وقد ذكرت كتب السير أن الإمام الحسن المجتبى (ع) المعروف بجوده وكرمه، قاسَمَ الله أمواله أكثر من مرّة، فكان يعطي نصف ماله في سبيل الله. وأعتق الإمام زين العابدين مئات العبيد في سبيل الله كصدقات جارية.
بالإضافة إلى ذلك، اهتم الأئمة بتعليم شيعتهم آداب الصدقة: فحثّوا على التصدق مما يحب المرء لا مما يكره، تطبيقًا لقول الله تعالى: ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾. وحثّوا على الأولوية: فصدقة العيال والأرحام مقدمة، ثم الجيران، ثم سائر الناس. ونقل الحر العاملي عنهم قولهم: «إطعام جائع أفضل من ألف صدقة» إذا كان في مقامه المناسب، تأكيدًا على النظر إلى حاجة المجتمع الأهم فالمهم.
الرأي الفقهي عند فقهاء الشيعة
تميّز الفقه الإمامي بالتفريق الواضح بين الصدقة الواجبة (وأهمها الزكاة المفروضة وزكاة الفطرة، فضلًا عن الخُمس الذي يعدّه الإمامية حقًّا ماليًّا وليس صدقة تطوعية) وبين الصدقة المستحبة (وهي كل عطاء تطوعي للفقراء بقصد القربة). يقرر الفقهاء المعاصرون –كالسيد السيستاني والإمام الخامنئي (حفظهما الله)– جملة من الأحكام في باب الصدقة، نذكر أهمها بإيجاز:
- تحريم الصدقة الواجبة على بني هاشم: اتفقت كلمة فقهاء الشيعة على أنه لا يجوز دفع زكاة المال وزكاة الفطرة إلى المنتسبين لبني هاشم (أي السادة من ذرية النبي ﷺ) إذا كان المزكِّي غير هاشمي . وعند السيد السيستاني تشمل الكراهة الشديدة أيضًا الصدقات اليسيرة لدفع البلاء إذا أدّت إلى إذلال الهاشمي الفقير . أما الهاشمي فيجوز أن يعطي الهاشمي والغير هاشمي صدقاته (واجبة أو مستحبة) بلا حرج ، ويجوز لغير الهاشمي أن يعطي السادة من صدقاته المستحبة إذا لم يقع فيها إذلال لهم . هذه التقييدات مبنيّة على روايات عند أهل البيت تمنع إذلال عيال النبي ﷺ بأوساخ أموال الناس، ووجوب صون مقامهم.
- أولوية النفقة والعيال: يشير الفقهاء إلى أن نفقة الإنسان على من تجب عليه نفقتهم (كالوالدين والأبناء والزوجة) مقدَّمة على إعطاء الصدقات التطوعية. فلا يصح شرعًا أن يعتبر ما يصرفه على والديه مثلًا صدقةً، لأنه واجب نفقة أصلًا. نعم، يجوز أن يعطيهم من الصدقة المستحبة إذا كانوا فقراء وكان ذلك زيادة على ما يجب عليه من نفقتهم . وقد صرّح الإمام الخامنئي بجواز دفع الصدقة للقرابة مطلقًا في المستحبّة، وفي الواجبة إن كانوا فقراء غير واجبي النفقة، فالأقارب أولى بالمعروف . كما أكّد الفقهاء ما ورد في الروايات أن التوسعة على العيال أفضل من الصدقة على غيرهم ؛ أي أن الإنفاق على الأسرة وتوفير ما يُغنيهم خيرٌ من صدقة التطوع على الغرباء. وإذا وُجد قريب محتاج فالصدقة عليه أفضل من الغريب، بل صدقة على رحم معادٍ (مخاصم) تعدّ أفضل لأثرها في ترقيق قلبه .
- شروط الصدقة وآدابها في الفقه: يشترط النية (قصد القربة) في صحة الصدقة المستحبة كما في سائر القربات . ويندب المسارعة بها في أول النهار لدفع شرّ ما يواجهه الإنسان في يومه، وفي أول الليل لدفع بلاء الليل . كما يندب إعطاؤها سرًّا إن خشي الرياء أو إذلال الفقير، ويجوز إعلانها إن كان في ذلك تشجيع لغيره، ولكن بشرط الإخلاص. ومن المستحبات التي يذكرها الفقهاء استنادًا للأحاديث: أن يناول المتصدِّقُ صدقته بيده للفقير ويُظهر البشر والطلاقة عند العطاء، وألا يردَّ السائل ولو باليسير، فعن الإمام الكاظم (ع): «ردُّ السائل كسْرٌ لقلبه». ويكره للإنسان أن يستعيد ما تصدق به أو يشتريه ممن تصدق عليه؛ جاء في المنهيات «كراهة شديدة أن يتملك المتصدق ما تصدق به على الفقير بشراء أو هبة» . كما يُكره التصّدق بالرديء من المال أو الطعام الذي يستحيي المرء من قبوله، لقوله تعالى: ﴿وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ﴾ (البقرة:267).
- مصارف الصدقة المستحبة: الأصل أنها للفقراء والمساكين وقضاء حوائج المحتاجين. هل يجوز صرف الصدقة في مشاريع عامة؟ يفرّق الفقه الشيعي بين أموال الصدقة المخصصة للفقراء وبين التبرعات العامة. السيد السيستاني مثلًا يجيز صرف التبرعات العامة في بناء مسجد أو حسينية ونحوها، أما صدقات الفقراء الخاصة فلا تُصرف إلا لهم . ومع ذلك، أدخل الفقهاء كثيرًا من وجوه البر ضمن عنوان الصدقة الجارية (وهي كل عمل خيري مستمر النفع) فعدّوا بناء المساجد والمدارس وطبع الكتب النافعة والوقف على الأيتام والفقراء من الصدقة الجارية .
- دفع الصدقة لغير المسلمين: يرى الفقهاء جواز التصدق على الفقير غير المسلم (يهودي أو مسيحي أو حتى وثني) ما دام غير معاند ومعادٍ للمؤمنين. بل نص السيد السيستاني على أنه راجح (مستحب) وإن كان إعطاء المؤمن الفقير أفضل . وهذا ينبع من روح الإنسانية في الإسلام وترسيخ مبدأ التكافل مع بني البشر. وقد دلّت سيرة الأئمة على ذلك؛ فالإمام علي (ع) تصدق على غير المسلمين، بل أوصى لأعدائه إن كانوا ذوي فاقة.
- تنظيم الصدقات وأموال الخيرات: مع تطور الحياة، توجد صناديق ولجان خيرية لجمع الصدقات. أفتى الفقهاء بجواز وضع المال في صناديق الصدقات التابعة لجهة موثوقة، بشرط اطمئنان المتبرع أن المال سيصل فعلًا للمحتاجين المستحقين . أما استثمار أموال الصدقة لمصلحة الفقراء (كأن تُجمع ثم تُستثمر في مشروع والأرباح تصرف على المحتاجين) فهذا لا يجوز إلا بإذن أصحاب الأموال المتبرعين مسبقًا، أو إذن الحاكم الشرعي الذي له الولاية في الموارد العامة . لأن مال الصدقة يجب أن يصل للمستحق ولا يُتصرّف فيه بغير إذن. أيضًا أفتى العلماء بجواز دفع أجرة معقولة لمن يساعد في جمع الصدقات إذا دعت الحاجة لذلك، على أن تؤخذ الأجرة من مجموع التبرعات برضا أصحابها ضمنًا ، أما إعطاء القائمين على الجمع مكافآت زائدة من أموال الصدقات (غير رواتبهم) فلا يجوز بدون إذن خاص .
- حكم صدقة المَدين: إذا كان الشخص غارقًا في الدين لكن يملك قليلًا من المال، هل له أن يتصدّق بشيء يسير؟ أفتى مراجع الشيعة بأنه لا بأس أن يتصدق بشيء قليل لدفع البلاء ونيل الأجر حتى لو كان عليه ديون، ما دام لا يُضِرّ ذلك بوفاء دينه . أما إن جمع صندوقًا للصدقات من ماله ثم قرر أن يصرف ما جمعه لقضاء دينه فلا يخلو الأمر: إن لم يكن قد نوى وجعل المال صدقة فعلًا، جاز أن يستخدمه لنفسه ويردّه لدائنيه؛ أما إن كان قد أخرجه عن ملكه بنيّة الصدقة فلا يجوز أن يرجع فيه .
باختصار، يرى الفقهاء الشيعة المعاصرون أن الصدقة المستحبة باب واسع للإحسان مشروط بالإخلاص وحُسن القصد، وهي مرغبٌّ فيها في كل وقت وخاصة عند كل صباح ومساء . ويؤكدون أن الصدقة واجبة كانت أم مستحبة لا تُنقص المال بل تزيده بركة ، وأن الله يخلُف على المنفق خيرا، مستشهدين بقول الإمام الصادق (ع): «ما مِن عبدٍ انقطعَ مالُهُ (أي افتقر) من الصدقة». كما يشددون على حفظ كرامة الفقير وعدم إذلاله، امتثالًا لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً… فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ (البقرة:274). فالليل والسِّر لمن يخشى الرياء أو أذية مشاعر الفقير، والنهار والعلانية لمن يريد أن يقتدي به غيره – وكلاهما مأجور بنص القرآن .
الإشارات العرفانية حول الصدقة وتزكية النفس
نظر علماء العرفان والأخلاق –خاصة في المدرسة الشيعية– إلى الصدقة كممارسة روحية تتجاوز كونها مجرد عمل اجتماعي. فالصدقة عندهم هي رياضة نفسية لتطهير القلب من حب الدنيا والأنانية . وكلما جاهد الإنسان نفسه وأنفق مما يحب كان ذلك برهانًا على إخلاصه، كما في الحديث النبوي: «والصدقة برهان». يقول العارفون: إن بذل المال لله يحرر النفس من عبودية الدرهم والدينار، ويفتح للقلب أبواب الرحمة الإلهية. وقد استدلّوا بقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ على أن حقيقة الصدقة تطهير الروح وتنمية الفضائل فيها لا مجرد سد حاجة الفقير . لذلك نجدهم يركزون على نية المتصدق أكثر من عين المال، ويعتبرون المنة على الفقير آفة روحية تفسد أثر الصدقة لأن فيها رؤية للنفس وغمطًا لفضل الله. قال بعض العرفاء: حينما تعطي الفقير مالًا، فإن الفقير في الحقيقة هو الذي يمنحك فرصة تطهير مالك وتزكيته ، فهو صاحب المِنّة عليك لأنه سبب نجاتك وأجر آخرتك. ومن هذا المنطلق فسرّوا قول الإمام علي (ع): «ما أحسنَ عطفَ الأغنياء على الفقراء، وأحسنَ منه تواضعَ الفقراء للأغنياء» بأن الفقير حين يأخذ الصدقة متواضعًا إنما يتفضل على الغني بقبولها. لذلك شدد العرفاء على ضرورة الشعور بالامتنان عند التصدق لا بالعجب والاستعلاء. وينقل أن بعض كبار الزهاد كان إذا تصدق على فقير قبّل يده بعد الأخذ، قيل له في ذلك فقال: أُقبِّل يدًا مسَّتْها يدُ الله، في إشارة إلى الحديث القدسي: «يا ابن آدم مرضتُ فلم تعُدني… استطعمتك فلم تطعمني… استسقيتك فلم تسقني… أما علمتَ أنّ عبدي فلانًا مرض… وأن عبدي فلانًا استطعمك… واستسقاك… فلو عدته لوجدتني عنده… ولو أطعمته لوجدت ذلك عندي…». فهذا فهم عميق لحضور الله عند فعل الصدقة، حتى كأن المتصدق والمتصدَّق عليه كلاهما يتعاملان مع الله مباشرة في تلك اللحظة.
كما تحدث عرفاء الشيعة عن الصدقة كوسيلة لتصفية القلب من رذيلة البخل. فالبخل عندهم حجاب ظُلماني يُغلِق منافذ النور، والصدقة تكسره وتفتح أبواب الأنوار. يقول الإمام الخميني (رض) في أحد دروس الأخلاق: «المال مال الله، والفقير عيال الله، وأنت وكيل مستخلف. فهل من الإخلاص أن تمنع حق الله عن عياله؟!». فهذه النظرة تجعل العطاء سيرًا وسلوكًا إلى الله عبر خلقه. ويؤكد العرفاء أيضًا أن دوام الصدقة وسرّيتها يعمّقان أثرها التربوي؛ فكونها في الخفاء يدرب النفس على الإخلاص والخلاص من طلب المديح. وقد ورد في الحديث: «صدقة السر تطفئ غضب الرب» لأنها خالصة لله بالكامل. وكذلك عدّوا الصدقة الجاريـة (كالأوقاف والأعمال المستديمة النفع) من أنجع الطرق لربط الإنسان بالآخرة واستمرار حسناته بعد موته، لما فيها من نية صادقة لخدمة الأجيال دون طلب منفعة آنية.
وخلاصة القول: تظهر هذه الجوانب العرفانية أن الصدقة في التصور الإسلامي الشيعي ليست مجرد إعانة مادية، بل هي عملية تهذيب للروح وامتحان لإيمان الفرد ويقينه. فهي تطهير للنفس من أدران الشح، وتجسيد لمعاني التوكل على الله (بالثقة أنه يخلف على المنفق خيرًا)، وتربية عملية على الإحسان بدون توقع مقابل دنيوي . وهي أيضًا مفتاح للشعور بحقيقة الخلافة الإلهية في المال وأن المال وسيلة لا غاية. من ثَمَّ فإن أعظم صدقة في نظر العرفاء هي التي يبذلها العبد وقد انكسر قلبه لله شعورًا بالفقر إليه سبحانه، فيكون كالذي قدّم ماله وروحه جميعًا بين يدي مولاه. عندها تتحقق الغاية القرآنية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ – أي لن تنالوا كمال أنفسكم وتزكيتها حتى تقدموا أثمن ما تحبون تقربًا إلى الله .
وفي الختام، يتضح لنا من هذه الدراسة أن الصدقة في القرآن ليست عملًا ثانويًا أو إحسانيًا صرفًا، بل هي جزء لا يتجزأ من منظومة تزكية الفرد والمجتمع في الإسلام. وقد أكدت التفاسير الشيعية على هذه المعاني، وأثرتها روايات أهل البيت وتطبيقاتهم العملية، كما فصل الفقهاء أحكامها ليوجّهوا هذا العمل النبيل إلى ما يحقق غايته الشرعية والروحية. فالصدقة جسرٌ بين الغني والفقير، وبابٌ من أبواب الجنة، وحِرزٌ من البلايا، وميدانٌ لتربية النفس على الكرم والإيثار، وطريقٌ لنيل رضا الله سبحانه وتعالى . نسأل الله تعالى أن يوفقنا لأداء الصدقات على الوجه الذي يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب.
المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم وتفاسير أهل البيت (ع) – تفسير مجمع البيان للطبرسي، الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي.
- باوزير، د. محمد أبوبكر. الصدقة في القرآن الكريم (دراسة موضوعية) – مجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، مجلد 19، عدد 1 (2024) .
- الحر العاملي، وسائل الشيعة – أبواب الصدقة، أحاديث فضل الصدقة وآدابها .
- الكليني، الكافي – كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة، وباب صدقة السر والعلانية.
- أجوبة الاستفتاءات للسيد علي السيستاني – باب الصدقة (موقع شبكة النجف الأشرف) .
- أجوبة الاستفتاءات للإمام الخامنئي – كتاب أجوبة الاستفتاءات، مسألة الصدقات (شبكة السراج) .
- روايات في فضل الصدقة – ابن بابويه (الصدوق)، ثواب الأعمال؛ المجلسي، بحار الأنوار (ج 93 ص 180) .
- موقع إسلام أصيل – مقال “التصدّق” (قسم الأخلاق والعرفان) .
- رياض الزهراء – مقالة نزول سورة الإنسان في أهل البيت (ع) .
- أقوال أهل البيت (ع) عن الصدقة – (مجموع أحاديث مروية في تحف العقول وغيرها) .