ما هي أولويات الرجل في الحياة؟ نظرة إسلامية متوازنة
- 13/05/2025
- تم النشر بواسطة: محمد درويش
- الفئة: الأخلاق الإسلامية السعادة النجاح والإنجاز الهوية الإسلامية تطوير الذات دراسات القرآنية

جدول المحتويات
في عالم تتنازع فيه المسؤوليات والضغوط، يظل سؤال الأولويات مطروحًا بقوة:
من أين يبدأ الرجل؟ ومن هو أولى بحقه: ربه أم زوجه؟ أسرته أم مجتمعه؟
في هذا المقال، نغوص في أعماق النصوص القرآنية وروايات أهل البيت عليهم السلام لنرسم خريطة متزنة لأهم أولويات الرجل المؤمن.
كما نحلل مقولات العصر مثل “Happy Wife, Happy Life” بميزان الشريعة والعقل، ونكشف كيف يمكن تطبيق هذه الأولويات في زمن السرعة والتكنولوجيا والتغيّر القيمي.
إذا كنت تبحث عن توازن حقيقي بين الدين والدنيا، فهذا المقال كُتب لأجلك.
ملخص المقال
يستعرض هذا المقال ترتيب أولويات الرجل في الحياة من منظور إسلامي شيعي، استنادًا إلى القرآن الكريم والروايات المعتبرة عن أهل البيت (ع)، مع تحليل اجتماعي معاصر يتناول تحديات العصر الحديث وتغير القيم والعلاقات.
يبدأ المقال بترتيب الأولويات العامة في حياة الرجل، حيث تتصدّر التقوى والإيمان قمة الهرم، يليها رعاية الأسرة (الوالدين، الزوجة، الأبناء)، ثم العمل والكسب الحلال، وطلب العلم وتنمية الذات، والصداقة الصالحة وصلة الرحم، وأخيرًا خدمة المجتمع. هذه الأولويات مترابطة، ويجب أن يتعامل معها الرجل المؤمن بتوازن ووعي.
ينتقل المقال إلى تفصيل السياقات الخاصة، مثل كيفية ترتيب الأولويات في حالات الأزمات، أو أثناء بناء الأسرة، أو في مراحل طلب العلم، أو عند الانخراط في العمل الاجتماعي والدعوي، موضحًا أن الإسلام يدعو دائمًا إلى المرونة الواعية دون التفريط بالثوابت.
كما يعالج المقال بعض المقولات المعاصرة مثل: “Happy Wife, Happy Life”، ويبيّن أن الإسلام يقر بأهمية إسعاد الزوجة، لكنه لا يجعلها محور الحياة الوحيد، بل يدعو إلى التوازن بين حقوق الزوجة وحقوق الله والوالدين والمجتمع.
ويختم المقال بتحليل اجتماعي معاصر لكيفية تطبيق هذه الأولويات في زمن تسوده التكنولوجيا، وضغوط العمل، والتحولات القيمية. يؤكد أن الرجل المسلم في العصر الحديث بحاجة إلى البصيرة، وضبط الوقت، والمرونة في الممارسة، دون أن يتنازل عن مبدئيته وتدينه، ليظل ثابتًا على طريق التوازن بين الدنيا والآخرة.
الأولويات العامة في حياة الرجل المؤمن
يقدّم الإسلام رؤية متوازنة تنظم علاقة الإنسان بالدنيا والآخرة دون إفراط أو تفريط. فقد خاطب الله تعالى الإنسان بقوله: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، مما يدل على وجوب السعي للآخرة من خلال العمل في الدنيا وعدم إهمال الحقوق الدنيوية المشروعة. وفي الحديث النبوي جاء التأكيد على هذا التوازن: «لا ينبغي للعاقل أن يكون ظاعناً إلّا في ثلاث: مَرَمَّةٌ لمعاش، أو تزوّدٌ لمعاد، أو لذّةٌ في غير مُحرَّم». أي أنَّ المؤمن العاقل يرتحل في حياته الفكرية والعملية ضمن ثلاثة محاور كبرى: إصلاح معاشه الدنيوي، والاستعداد لمعاده الأخروي، ونيل المتع الحلال التي تعينه وتجدّد نشاطه دون معصية. بناءً على ذلك، يمكن ترتيب الأولويات الأساسية في حياة الرجل المؤمن كما يلي:
- الإيمان والتقوى وطاعة الله: في مقدّم الأولويات يأتي إيمان الرجل والتزامه بواجباته الدينية وأخلاقه الإسلامية. فالإيمان هو البوصلة التي توجّه سائر شؤون حياته. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ (ع) قوله: «إنما يُعرف الناس بدينهم وأخلاقهم» (مضمون روايات متعددة). ويُستدل أيضًا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13)؛ فالتقوى رأس الأولويات. لذا يحرص المؤمن على أداء الفرائض واجتناب المحرمات وجعل رضى الله الغاية الأسمى لكل عمل يقوم به.
- رعاية الأسرة (الوالدان، والزوجة، والأبناء): الأسرة نواة المجتمع وموضع عناية خاصة في الإسلام. يأتي بِرّ الوالدين في مرتبة متقدمة بعد الإيمان، ثم رعاية الزوجة والأبناء. وقد أكد النبي محمد (ص) هذا الترتيب بقوله: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»، مما يجعل حسن معاملة الزوجة والأولاد معيارًا لخيرية الرجل. ويشرح الإمام زين العابدين (ع) حق الزوجة بقوله: «وحقُّ الزوجة أن تعلم أنَّ الله عزَّ وجلَّ جعلها لك سكنًا وأنسًا… فتُكرِمَها وترفقَ بها…* ولها عليك أن ترحمها، لأنَّها أسيرك**»*. فالزوجة شريكة الحياة وراحتها مسؤولية شرعية على زوجها. وكذلك الأبناء لهم حق التربية والإحسان؛ يقول الإمام علي بن الحسين (ع): «وحقّ ولدك أن تعلم أنّه منك… وأنّك مسؤولٌ عمّا ولّيته من حسن الأدب، والدلالة على ربّه، والمعونة له على طاعته…». فواجب الرجل أن يُنشئ أسرته على الإيمان والقيم مع توفير حاجاتهم المادية والنفسية.
- العمل والكسب الحلال (المعاش): السعي لكسب الرزق الحلال من أهم الأولويات، لأنه يُمكِّن الرجل من إعالة نفسه وعياله وخدمة مجتمعه. وقد حذّرت النصوص من التهاون في أمر المعاش؛ رُوي عن الإمام الصادق (ع) قوله: «الكادُّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله»، أي إنَّ من يجتهد ليعفّ أسرته وينفق عليها بحلال له أجر كمجاهد في سبيل الله. وجاء في روايات أهل البيت أيضًا: «من لا معاش له لا معاد له»، بمعنى أن من يهمل وسائل العيش ويقعد عن العمل يعرض آخرته للخطر، لأن الفقر والحاجة قد يقودان إلى ضعف الإيمان أو ترك الواجبات. لذلك ينطلق المؤمن في طلب الرزق الحلال بجدّ، ملتزمًا بالأمانة والعدل، ويوفي حقوق الله والناس في ماله كالزكاة والخمس والصدقات. وقد سُئل الإمام الصادق (ع) عن رجلٍ يحب جمع المال وينوي إنفاقه في وجوه الخير والحج والعمرة، فقال (ع): «ليس هذا طلبَ الدنيا، هذا طلبُ الآخرة»، فطلب المعيشة بنية إعفاف النفس والإنفاق في الطاعات هو في حقيقته جزء من العبادة والسعي للآخرة.
- طلب العلم وتنمية الذات: العلم نور يهتدي به الرجل في دينه ودنياه، وقد جعله الإسلام فريضة على كل مسلم ومسلمة. فالسعي في تحصيل المعرفة الدينية (الفقه والعقيدة والأخلاق) والمعرفة الدنيوية النافعة (كالعلوم والصناعات) يعدّ أولوية بعد الضروريات الأساسية. قال رسول الله (ص): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»، وورد عن الإمام علي (ع): «إن الله تعالى إذا أراد بعبدٍ خيرًا فقّهه في الدين». فالرجل المؤمن يخصص وقتًا يوميًّا أو أسبوعيًّا للتعلم؛ يقرأ القرآن وكتب الحديث والفقه، ويسعى لفهم أمور دينه، وفي نفس الوقت يُنمّي مهاراته العلمية أو المهنية ليكون عنصرًا فعّالًا. وقد قال رسول الله (ص): «اغدُ عالمًا أو متعلمًا، وإياك أن تكون لاهيًا متلذذًا»، تنبيهًا إلى ألا يضيع المرء وقته في اللهو على حساب العلم. فالتعليم المستمر يُعتبر استثمارًا أخرويًا ودنيويًا، لأنه يرفع منزلة الإنسان ويزيد كفاءته في تحمل المسؤوليات.
- الصداقة الصالحة والمجتمع: يؤكد الإسلام على اختيار الرفقة الصالحة ضمن أولويات الحياة الاجتماعية للرجل. فالأصدقاء لهم تأثير عميق على فكر الإنسان وسلوكه، كما جاء عن النبي (ص): «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالل». هذه الوصية النبوية تجعل انتقاء الصديق الصالح ذا أهمية كبرى؛ فصحبة الأخيار تُعين على التقوى والاستقامة، بينما مصاحبة الأشرار تُفسد الدين والدنيا. لذلك ينظر المؤمن فيمن يخالطهم ويقضي وقته معهم: هل يذكّرونه بالله ويعينونه على الخير أم العكس؟ وقد شبّه الإمام الصادق (ع) صديق السوء بمن يقود صاحبه إلى الهلاك فقال: «مَن يصحب صاحب السوء لا يسلم». ومن جهة أخرى، يشجّع الإسلام على تكوين شبكة إخاء إيماني: «استَكثِروا من الإخوان فإنّ لكل مؤمن شفاعةً يوم القيامة» (رواية شريفة). فالصداقة في الله تأتي بأثر إيجابي في الدنيا والآخرة معًا. وينبغي أيضًا صلة الأرحام وحسن الجوار ضمن هذه الأولوية الاجتماعية، فـالمجتمع المتماسك يبدأ بعلاقات أسرية واجتماعية سليمة.
- خدمة الناس والمجتمع: لا تقتصر اهتمامات الرجل المؤمن على نفسه وأسرته فقط، بل تتسع لتشمل خدمة مجتمعه وأمته انطلاقًا من مبدأ التكافل والإحسان. خدمة الخلق من أفضل القربات؛ قال رسول الله (ص): «الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من نفعَ عيالَ الله وأدخل على أهل بيتٍ سرورًا». فإدخال السرور على الآخرين وقضاء حوائجهم يُعدّ عبادة. وجاء عن الإمام الصادق (ع): «من سعى لأخيه المؤمن في حاجةٍ قضى الله له بها سبعين حاجة من حوائج الآخرة». لذلك يوازن المؤمن بين واجباته الشخصية وبين العمل التطوعي والاجتماعي؛ فيشارك في أعمال الخير، ويعين الفقراء والمحتاجين، ويسهم في إصلاح ذات البين ونصح المجتمع. هذا الاهتمام الاجتماعي ركيزة من ركائز الأولويات، لأن الإسلام يريد للمجتمع أن ينهض بتعاون أفراده وتكافلهم. وقد جعل النبي (ص) حبّ الإنسان الخيرَ لإخوانه علامة الإيمان، فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (حديث متفق عليه). وعليه، يخدم الرجل الصالح مجتمعه بدافع إيماني، ويوازن بين ذلك وبين اهتمامه بنفسه وأسرته.
هذه الأولويات الستّ مترابطة ويكمل بعضها بعضًا، ولا تعني أبدًا التعارض أو التفاضل المطلق بينها، بل القاعدة الشرعية هي إعطاء كل ذي حق حقه. فالإيمان أساس ومحور، ثم الأسرة تأتي في القلب، والعمل والعلم والصحبة الصالحة وخدمة الناس تدور كلها في فلك الإيمان الصحيح. ومن فقه الأولويات أن لا يطغى جانب على آخر بشكل يخل بالتوازن: فلا يصح أن ينشغل الرجل بخدمة المجتمع وينسى أهله، ولا أن يغرق في العمل وجمع المال ويهمل صلاته أو علمه، وهكذا. هذه الموازنة الدقيقة هي عين ما رسمته تعاليم الإسلام وشخّصته روايات أهل البيت (ع). ومن حسن التوفيق أن تجد الرجل يحقق نجاحًا في دنياه بتعميرها، وفي الوقت نفسه يتزود لآخرته بصالح الأعمال، كما وصف الإمام علي (ع) حال الأتقياء بقوله: «جمعوا من الدنيا ببدنٍ ما لذّ لأهل الدنيا، وشاركوهم في النعيم، وأخذوا منهم الزاد للرحيل» (نهج البلاغة).
الأولويات وفق السياقات الخاصة
قد تواجه الرجل المؤمن تغيرات وظروف خاصة خلال حياته تفرض إعادة ترتيب مرحلي للأولويات مع التمسك بالثوابت الشرعية. ومن أبرز هذه السياقات:
أثناء الأزمات والشدائد
في الأزمات – سواء كانت مالية أو صحية أو عاطفية أو أمنية – تبرز فقه الأولويات بصورة جليّة. يتعين على الرجل آنذاك التركيز على الأهم فالمهم لتجاوز المحنة بأقل الخسائر الدينية والدنيوية. فمثلًا في الأزمة المالية أو ضيق المعيشة، لا بد من تقديم الضرورات على الكماليات؛ فيحرص الرجل على سدّ حاجات عياله الأساسية (طعامٍ ومسكنٍ وعلاج) ولو اضطر للتقليل من مستوى الرفاهية أو الإنفاق الثانوي. وقد قال أمير المؤمنين (ع) في ظروف المجاعة: «ابدأ بمن تعول» (أي قدّم نفقة عيالك). كما أن عليه في الوقت نفسه حفظ دينه وثقته بالله وعدم الانجرار للحرمات كالرِّبا أو أكل المال بالباطل بحجة تأمين المعيشة، فالتوكل مقرون بالسعي الحلال.
أما الأزمات الصحية أو الأمنية (كالحروب والكوارث)، فالأولوية الأولى: السلامة وحفظ النفس ومن يعول؛ لأن حفظ النفس من الكليات الخمس في الشريعة. لذلك قد يتخفف الإنسان في تلك الحال من بعض المستحبات أو حتى الواجبات الثانوية إن كان مهدَّدًا في أمنه أو صحته، ريثما يتخطى الخطر. ففي حالة المرض الشديد مثلًا يتقدم واجب التداوي والراحة على كثير من الأعمال التطوعية، امتثالًا لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ (النساء: 29) وعملاً بقاعدة “لا ضرر ولا ضرار”. وفي حالة الأزمات العامة كالحروب أو جائحة وبائية (مثل جائحة كورونا)، يصبح التعاون الاجتماعي والإغاثة أولوية جماعية، «فإنَّ مستوى القدرة على التفكير بأشياء أخرى سينخفض عندما تكون لُقمة الإنسان صعبة المنال وصحته مهددة». وقد ذكرت الرواية المتقدمة: «من لا معاش له لا معاد له» في هذا السياق، مما يعني أنَّه وقت الشدّة ينبغي تركيز الجهود على تأمين ضروريات العيش والصحة للناس قبل كل شيء، ثم يأتي دور التوعية والتثقيف وسائر الأعمال. فالرجل المؤمن في الشدائد يجعل إغاثة الملهوف ومساعدة من حوله واجبًا مقدّمًا (بعد حفظ نفسه)، اتباعًا لنهج النبي (ص) والأئمة في التضحية والإيثار زمن الأزمات.
عند بناء الأسرة وتكوينها
مرحلة الزواج وتأسيس الأسرة مرحلة مفصلية تتغير فيها أولويات الرجل بشكل واضح. فبعد أن كان مسؤولًا عن نفسه فقط، يصبح مسؤولًا عن زوجة وشريك حياة، ولاحقًا عن أطفال وأبناء. هنا تتقدم واجبات الأسرة ورعاية الزوجة والأولاد في سلّم الأولويات. يعلّمنا الإسلام أن الزواج بحد ذاته عمل صالح ومصدر أجر، لكنه يأتي مع مسؤولية عظيمة. فالرجل في هذه المرحلة يجعل هدفه بناء بيت مسلم آمن قائم على المودة والرحمة (كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ – الروم:21). وتتجسد الأولوية في حسن اختيار الزوجة المؤمنة الصالحة ابتداءً، ثم في الإحسان إليها ومعاشرتها بمعروف امتثالًا للآية: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (النساء:19). فعلى سبيل المثال، قد يضطر الرجل لتعديل وقته بين طلب العلم أو العمل وبين إعطاء الزوجة حقها من الاهتمام والمودة. ويأتي إنجاب الأطفال وتربيتهم ليضيف بُعدًا آخر للأولويات: فتنشئة الأبناء على الدين والأخلاق وتعليمهم أصبحت مهمة مُلحّة يتقرب بها الوالدان إلى الله. ومن هنا قد يؤثر الرجل الاستقرار في وظيفة أو مدينة معينة مراعاةً لمصلحة أسرته وأطفاله في التعليم والتنشئة، حتى لو كانت فرص الربح في مكان آخر أعلى؛ لأنه يوازن بين مصلحة الأسرة المادية والمعنوية. ولنا في سيرة أمير المؤمنين (ع) وأسرة فاطمة الزهراء (ع) أسوة؛ إذ قدّموا لنا نموذج الأسرة المؤمنة المتعاونة في طاعة الله، وتقاسم الأدوار في البيت، والتضحية من أجل الأبناء (مثل قصة إيثارهم بالطعام للمسكين واليتيم والأسير وهم بأمسّ الحاجة إليه – سورة الإنسان). فبناء الأسرة يتطلّب أن يُعلي الرجل قيمة الاستقرار الأسري والتربية فوق اعتبارات اللهو الشخصي أو الأنانية. وكذلك في حال الخلافات الزوجية أو المشكلات، تكون الأولوية للإصلاح وحفظ كيان الأسرة قدر الإمكان قبل التفكير بالانفصال، عملاً بالحديث «ما زال جبرائيل يوصيني بالمرأة حتى ظننت أنه سيحرم طلاقها» (مرويّ في كتب الآداب الأسرية). باختصار، في مرحلة بناء الأسرة يُعيد الرجل توزيع وقته وجهده وماله لتلبية متطلبات أسرته أولاً، مع الاستمرار بالطبع في أساسيات دينه ومعاشه.
في مرحلة طلب العلم الديني أو الأكاديمي
حين ينخرط الرجل المؤمن في مرحلة مكثفة من طلب العلم – سواء علم ديني في الحوزة أو علم أكاديمي في الجامعة وما شابه – فإن ذلك يؤثر على جدولة أولوياته اليومية. بيد أن الإسلام لم يشأ أن يكون طلب العلم بمعزل عن بقية الواجبات، بل على العكس؛ جعل التعلم نفسه عبادة ما دام بنيّة صالحة. في هذه المرحلة تكون العبادة العلمية في مرتبة متقدمة: قال رسول الله (ص): «فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم» (رواه الصادق ع ضمن حديث) إشادةً بأن تكريس الوقت للتحصيل العلمي في حد ذاته قربة إلى الله. لذا قد يضحي طالب العلم ببعض الرفاهيات أو يقلل من ساعات العمل المادي إذا كان متفرغًا للدراسة، لكن بشرط عدم إهمال حقوق الآخرين الواجبة. فمثلاً إن كان متزوجًا أو يعيل أسرة فلا يجوز له أن يقصر في نفقتهم بحجة طلب العلم؛ عليه إما التوفيق بين الأمرين أو يتخفف من التكاليف المادية الإضافية. أما إن كان غير متزوج ولا يعيل أحدًا، فله أن يكرس معظم وقته وجهده للتحصيل العلمي، مستحضرًا نية خدمة الدين والمجتمع بعلمه. ويبقى عليه رغم ذلك ألا ينسى نصيبه من التطوير الذاتي البدني والروحي؛ فيوازن بين الدراسة وبين راحة البدن وعبادة القلب حتى لا يحصل فتور أو تعب يُقعده عن هدفه. وقد قيل: “إن لبدنك عليك حقًا، وإن لروحك عليك حقًا”؛ فطالب العلم يجعل الاعتدال منهجه فلا يرهق نفسه حد الانقطاع ولا يتكاسل عن بلوغ غايته. وإذا تعارض طلب العلم مع واجبٍ أشد، قد يُقدِّم ذلك الواجب مؤقتًا ثم يعود لطلب العلم؛ مثال ذلك ما فعله بعض أصحاب الأئمة حين تركوا مجالس العلم لجهاد الدفاع حين اقتضى الأمر. فالمهم أن تبقى الأولويات مرنة ضمن إطارها الشرعي: العلم أولويته ما لم تزاحمه أولويات أوجب.
خدمة المجتمع والانخراط في العمل العام
قد يجد الرجل المؤمن نفسه في موقع خدمة مجتمعية أو سياسية أو دعوية تتطلب جهدًا ووقتًا كبيرًا، كأن يتولى مسؤولية في مجتمع محلّي أو ينشط في الدعوة أو الإصلاح أو يتصدّى لقضية عادلة. في هذه الحال، يتعين عليه إعادة ترتيب أولوياته دون الإخلال بالثوابت. فخدمة المجتمع من الدين، لكنها لا تعفيه من واجباته الأخرى. على المستوى النظري، ينبغي أن يحرص على:
- عدم التقصير في حق عائلته: كثير من العاملين للإصلاح العام يقعون في خطأ إهمال أهلهم بحجة الانشغال بأمور الأمة. الإسلام لا يقرّ ذلك التفريط، إذ برُّ الوالدين وحقوق الزوجة والأبناء لا تتعارض مع واجب خدمة المجتمع، بل كلاهما واجب في محله. فالزوج الصالح يُوازن بين وقت لأسرته ووقت لنشاطه العام. وإن تعرض لضغط كبير، جاز له تقليل نشاطه الاجتماعي مؤقتًا ريثما يؤدي حق أسرته. فقد رُوي أن النبي (ص) حذّر من الانصراف الكلي للعبادة على حساب العيال، وقال لسلمان الفارسي مصوِّبًا: «فإن لأهلك عليك حقًا». لذلك على الداعية أو الناشط أن يتواصل مع أهله ويطمئن عليهم ولو كان في غمرة عمله العام.
- عدم إهمال نفسه وروحه: فخدمة الناس عمل مرهق، وقد تُشغل الإنسان عن أوراده الروحية وصحته البدنية. فعليه أن يجد وقتًا لتجديد إيمانه بالعبادة والمناجاة ليحفظ إخلاصه ويستمد العون من الله. الأئمة (ع) كانوا رغم انشغالهم بهموم الأمة يخصصون أوقاتًا للخلوة مع الله عز وجل.
- ترتيب الأولويات داخل العمل العام نفسه: فمثلاً إذا كان منخرطًا في عمل سياسي أو اجتماعي، عليه أن يوازن بين المبادئ والأهداف. لا يضحّي بثوابته الأخلاقية في سبيل مصلحة سياسية زائلة. وليقدّم الأهم فالمهم: كأن يجعل نصرة المظلوم وإقامة العدل في الصدارة، فوق الاعتبارات الحزبية الضيقة. وينطلق في ذلك من هدي أمير المؤمنين (ع) في عهده لمالك الأشتر حين قال: «ليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية» (نهج البلاغة). أي يقدم ما يخدم الصالح العام العادل على ما سواه.
وخلاصة القول في السياقات الخاصة: المرونة الواعية هي المفتاح. يُراعي الرجل الظرف الذي يمر به: فإذا ألمّت أزمة قُدّمت الضرورات، وإذا بَنى أسرة قدّم واجباتها، وإذا انكبَّ على علم ركّز فيه مع عدم إهمال الفرائض، وإذا خدم مجتمعه أدّى الحقوق بتوازن. في جميع هذه الأحوال تبقى البوصلة الشرعية والأخلاقية ثابتة، وإنما يتغير ترتيب الأولويات التطبيقية حسب كل ظرف، عملاً بقول الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (التغابن:16). فالإسلام دين المرونة والسماحة، لا يكلف النفس إلا وسعها، ويوازن بين الواجبات بتقديم الأهم عند التعارض.
مقولات معاصرة حول العلاقة الزوجية: “Happy Wife, Happy Life” ونظريات المركزية النسوية
ظهرت في العصر الحديث عبارات شعبية وتوجهات فكرية حول علاقة الرجل بالمرأة (الزوجة)، مثل مقولة “Happy Wife, Happy Life” (سعادة الزوجة تعني حياة سعيدة للزوج)، وكذلك بعض الأطروحات النسوية التي تجعل الزوجة مركز حياة الرجل ومحور سعادته. هذه المقولات تحمل جانبًا من الحقيقة لكنها بحاجة إلى تحليل وتقييم في ضوء الرؤية الإسلامية للعلاقة بين الزوجين.
بدايةً، لا ينكر الإسلام أن سعادة الزوجة ورضاها عامل مهم جدًا في استقرار الحياة الزوجية وسعادة الزوج ذاته. فمن يعيش في بيت يسوده الود والتفاهم سيهنأ بحياته قطعًا. وقد مرَّ معنا حديث النبي (ص): «خيركم خيركم لأهله» والذي يوجه الرجل لأن يبذل خيره وحنانه لأسرته أولاً. وجاء عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «عيالُ الرجل أسراؤه، وأحبُّ العباد إلى الله أحسنهم صُنعًا إلى أسرته». فإسعاد الزوجة والأهل هو في صميم المنهج الإسلامي، ويدخل في باب الإحسان الذي يؤجر عليه الرجل. حتى إن بعض الروايات تحثّ الرجل على التجمّل لزوجته كما يحب أن تتجمل له، وعلى إظهار الحب والمودة لها. ومن هذا المنطلق، تتوافق مقولة “Happy Wife, Happy Life” جزئيًا مع التعاليم الإسلامية التي تجعل راحة الزوجة من مسؤوليات الزوج. وقد قال النبي (ص): «إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك»، أي أن حتى اللقمة التي يطعمها الرجل لزوجته بحب وإخلاص هي صدقة يؤجر عليها. فهذا تأكيد بليغ أن إسعاد الزوجة عبادة وسبب للسعادة في الدنيا والآخرة معًا.
لكن من ناحية أخرى، لا يرى الإسلام أن إرضاء الزوجة هو الغاية المطلقة التي يضحي الرجل بكل شيء من أجلها بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى. فالزوجة جزء مهم من حياة الرجل وليست كل حياته. هناك أيضًا حقوق الوالدين وصلة الرحم وواجبات الدين والمجتمع التي لا ينبغي التفريط بها. إن النظريات المعاصرة المتأثرة بالفكر النسوي قد تُصوِّر أن على الرجل أن يجعل كل همه إسعاد زوجته ولو على حساب نفسه أو أهله الآخرين أو حتى على حساب مبادئه. لكن النظرة الإسلامية متوازنة: نعم لإكرام الزوجة وإسعادها، ولكن في إطار مرضاة الله والعدل مع بقية الأطراف. فلا طاعة لمخلوق – زوجةً كانت أو غيرها – في معصية الخالق. فإن طلبت الزوجة أمرًا مخالفًا للشرع أو لحقّ الغير، وجب على الزوج أن يعتذر بلطف ويوازن الأمر. وقد أشار أمير المؤمنين (ع) إلى فتنة قد تقع في إرضاء الزوجة أو الأسرة على حساب الدين، فورد عنه: «إيّاك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن» – والمقصود التحذير من الانصياع الأعمى إن خالف رأيهن الحق، وليس إهمال مشورتهن بالمطلق. فالإسلام يرفض جعل أي طرف مركزية مطلقة تدور حولها الحياة الزوجية غير مركزية طاعة الله تعالى.
وفي السياق نفسه، قد يدعو بعض أنصار “المساواة المطلقة” أو النسوية الراديكالية إلى أن يكون رضا الزوجة مقدمًا مطلقًا على رضا والدي الرجل مثلاً، بحجة أن الزوجة شريكة حياة والوالدين جيل قديم! وهذا من المنظور الإسلامي تجاوز غير مقبول. فالشريعة أعطت الأم مثلاً مقامًا عظيمًا حتى قال النبي (ص): «أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك» (في جواب من أحق الناس بحسن الصحبة). ولم يقل “زوجتك ثم زوجتك”! بل جعل حق الزوجة في حدود المعاشرة بالمعروف والمساواة في النفقة والعدل والمحبة، وجعل حق الوالدين في البر والإحسان والطاعة في غير معصية. فالرجل مطالَب شرعًا أن يعطي كل ذي حق حقه: يبرّ والديه ويصل رحمه، ويكرم زوجته وأولاده، ولا يهمل شأن أمته أيضًا. فإن حدث تعارض، قدًّم الأوجب فالأوجب. فلو فرضنا زوجة تطلب من زوجها قطع صلته بأمه مثلاً بدافع الغيرة، لا يجوز له طاعتها في قطيعة أمه، لأن حق الأم أشد وجوبًا، ولكن عليه أيضًا أن يُفهّم الأم حق زوجته بالمعروف ليمنع الظلم عنها. فالمعادلة الإسلامية تقتضي التوازن والعدالة في العلاقات الأسرية، لا إنكار دور أحد لصالح آخر.
أما مقولة “سعادة الزوج مرهونة بسعادة زوجته”، ففي الرؤية الإسلامية الأصحّ أن سعادة كل منهما مرهونة بسعادة الآخر عبر تحقيق تقوى الله في علاقتهما. فكما ينبغي للرجل إرضاء زوجته، كذلك الزوجة مأمورة شرعًا بإرضاء زوجها في حدود طاعة الله. وقد ورد عن الإمام الباقر (ع): «ما استفاد امرؤٌ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر إليها وتحفظه إذا غاب عنها وتطيعه إذا أمرها» (الكافي). فالسعادة الزوجية مطلب متبادل وليست مسئولية الرجل وحده. نعم، على الرجل القوامة المادية وواجب النفقة وحسن العشرة ابتغاء الأجر، وعلى المرأة حسن التبعل ورعاية البيت والأولاد ابتغاء الأجر. وعند قيام كل طرف بواجبه ينال كلاهما السعادة. فلو ركز الخطاب النسوي على مركزية سعادة الزوجة فقط ربما أغفل هذه المتبادلية المطلوبة.
باختصار، يتفق الإسلام مع الجوهر الإيجابي لمثل هذه المقولات المعاصرة في ضرورة اهتمام الرجل بسعادة زوجته كجزء أساسي من سعادته هو، لكن الإسلام يرفض أي فهم يمضي إلى تضخيم هذا الجانب على حساب سائر الواجبات والعلاقات. فالحياة الزوجية جزء من منظومة أكبر في حياة المؤمن، ولا بد أن تبقى متناغمة مع إيمانه وبرّه وصلة أرحامه وخدمة مجتمعه. النظرة الإسلامية تجعل الله محور الحياة، وسعادة الزوجين تتحقق باتباع أمر الله فيهما. فإن قيل “Happy Wife, Happy Life”، نقول نعم إذا كانت Happy in God’s obedience؛ وكذلك happy husband, happy wife عبر التعاون على البر والتقوى. وأما النظريات الداعية لجعل الزوجة مركز الكون العائلي بمعزل عن أي اعتبار آخر، فهي رؤى غير متوازنة عند مقارنتها برؤية الإسلام الشاملة التي تكرم المرأة زوجةً وأمًا، وفي الوقت ذاته تحفظ للرجل أدواره الأخرى وحقوق بقية الأطراف. ومتى ما طبق الزوج المسلم مبدأ العدل والإحسان في كل اتجاه، سيحقق السعادة الحقة لجميع من حوله بتوازن وانسجام.
تطبيق الأولويات في عالم اليوم المتغير
يواجه الرجل المعاصر تحديات جديدة لم تكن بنفس الحدة في الأزمان السابقة؛ فإيقاع الحياة متسارع، والمسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية متشابكة، والتكنولوجيا الرقمية دخلت كل بيت وأثرت على شكل العلاقات. فكيف يمكن للرجل المؤمن تطبيق ترتيب الأولويات الآن وفي المستقبل؟
أولًا: في ظل التحديات الاقتصادية وضغوط العمل. بات تأمين المعيشة الكريمة أكثر صعوبة في كثير من المجتمعات بسبب غلاء المعيشة أو تقلّب أسواق العمل. وهذا قد يغري البعض بالانغماس المفرط في العمل لساعات طويلة على حساب جوانب الحياة الأخرى. هنا تبرز أهمية فقه الموازنة: على الرجل أن يجتهد في عمله لكسب الرزق الحلال (فهذا واجب وأولوية كما أسلفنا)، لكن دون أن يتحول إلى عبدٍ للعمل أو لجمع المال. فلا يصح أن يترك صلاته بحجة العمل؛ بل يرتب وقته ليؤدي الصلاة في وقتها حتى لو كان في المكتب. ولا يصح أن يهمل أسرته تمامًا بسبب وظيفتين أو ثلاث؛ بل يحاول قدر الإمكان تنظيم وقته ليبقى هناك وقت للأهل والعبادة والراحة. التقنية الحديثة (كالمحمول والإنترنت) وإن كانت تزيد الإنتاجية أحيانًا، إلا أنها أيضًا تسمح بمرونة أكثر في إنجاز العمل عن بُعد، مما يمكن استثماره لقضاء وقت أطول في المنزل. إذاً حُسن إدارة الوقت ضرورة عصرية للحفاظ على الأولويات: فبدلاً من تضييع ساعات على مواقع تواصل أو ترفيه بلا هدف، يمكن اقتطاع جزء منها للأسرة أو للتعليم الذاتي أو للأعمال الصالحة. كما أن التخطيط المالي السليم (ادخار واستثمار حلال وتقليل مصروفات كمالية) يساعد الرجل أن لا يضطر للعمل المرهق المفرط طمعًا في كماليات، فيتوازن بين حق بدنه عليه في الراحة وحق عياله وحق ربه.
ثانيًا: في مواجهة ثورة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. هذه الثورة حملت مفارقة عجيبة: قرّبت البعيد وأبعدت القريب. فقد تجد الرجل يتواصل افتراضيًا مع العشرات عبر العالم ويخصص لهم الوقت، لكنه يهمل الجلوس مع أسرته ساعة حقيقية. إدمان الإنترنت ووسائل التواصل أصبح ظاهرة تؤثر على الترابط الأسري؛ حيث ينشغل كل فرد بشاشته في عزلة نسبية حتى وهم تحت سقف واحد. التطبيق العملي للأولويات هنا يتطلب انضباطًا ذاتيًا: على الرجل الواعي أن يضبط استخدامه للتكنولوجيا بحيث لا ينصرف عن أهله وواجباته. يمكنه مثلًا أن يحدد لنفسه ساعات بلا هاتف يوميًا يقضيها مع الزوجة والأبناء في حديث أو نشاط عائلي، لإعادة الدفء للعلاقات الواقعية. أيضًا يجعل لتصفح الإنترنت أوقاتًا مخصصة بعد إنجاز فروضه وأعماله الأساسية، وليس على حسابها. وإن كان داعية أو مثقفًا يستخدم المنصات الإلكترونية فينظم وقته بين نشر المحتوى وبين حياته الخاصة. التقنية أداة ذات حدين؛ فيمكن استثمارها إيجابيًا (كالتعلم عن بعد، والعمل من المنزل، والدعوة الإلكترونية)، لكن المهم ألا تتحول إلى إدمان يأكل الوقت بلا نفع. ينصح الخبراء بتفعيل أساليب مثل: إيقاف الإشعارات غير الضرورية، ووضع الهاتف بعيدًا أثناء الجلسات العائلية، وتخصيص يوم أسبوعي كنزهة عائلية في الطبيعة بدون إلكترونيات… هذه خطوات عملية تجعل الأسرة أولوية محسوسة رغم زحمة التكنولوجيا.
ثالثًا: في خضم التحولات الاجتماعية والقيمية. العالم اليوم يشهد تغيرات في القيم والأعراف بسرعة. مثلاً، انتشار ثقافة الاستهلاك والمادة قد يُبعد البعض عن قيم البساطة والقناعة التي نادى بها الدين. هنا يتعين على المؤمن أن يتسلح بـالوعي والبصيرة حتى لا ينجرف. يأتي دور طلب العلم المستمر وفهم المقاصد الشرعية ليكون الرجل قادرًا على تمييز الغث من السمين في الطروحات الجديدة. فمثلاً في القضايا الأسرية، قد يسمع أفكارًا غريبة عن أدوار الجنسين أو التربية، فعليه الرجوع إلى هدي النبي وأهل البيت ليوازن بينها. كذلك أمام موجة اللهو والترفيه المسرف التي توفرها التقنيات (ألعاب إلكترونية، منصات بثّ)، يضع المؤمن لنفسه ضوابط مستمدة من التقوى: فيسأل هل يطغى الترفيه على العبادة والعمل؟ هل المحتوى مباح؟ ويُقدم الأهم دائمًا. لا يعني هذا الانعزال عن العصر، بل على العكس: يواكب التطور دون أن يفقد بوصلته القيمية. فيستخدم الإنترنت مثلاً للتعلم والتواصل النافع، لكن لا يسمح له بأن يسرق منه وقت صلة الرحم أو قراءة القرآن. وهذا يتطلب مجاهدة نفس وانضباط في البداية حتى يصير عادة راسخة.
رابعًا: في إدارة التغيرات المهنية والجغرافية. كثير من الناس يضطرون اليوم لتغيير مهنتهم عدة مرات أو الانتقال لبلدان أخرى سعياً وراء الرزق أو الأمن. عند كل منعطف كهذا، يعود المؤمن إلى قائمة أولوياته ليعيد ترتيبها بحسب الوضع الجديد. فإن سافر بعيدًا عن أهله للعمل، يحرص على الاتصال الدائم بهم وإرسال النفقة والعودة دوريًا إن أمكن، كي لا تنقطع صلة الرحم. وإن وجد في بلد الاغتراب بيئة مختلفة أخلاقيًا، يجعل تحصين دينه ودين أسرته أولوية قصوى عبر إيجاد صحبة مؤمنة هناك أو الارتباط بالمراكز الإسلامية. وهكذا يكون واعيًا أن تغير الظروف لا يغير مبدئيًا أهدافه الأساسية، وإنما يعدل وسائل تحقيقها.
خامسًا: تعزيز الدور المعنوي في الأسرة والمجتمع برغم تسارع الحياة. صحيح أن عالم اليوم ماديّ النزعة، لكن الحاجات النفسية والروحية للأفراد ما زالت مهمة بل تزداد أهمية مع ضغوط الحياة. لذا فإن تطبيق أولويات الرجل المؤمن يشمل إعطاء مساحات للمعنى والروحانية في حياته وحياة من حوله. فيحرص مثلاً على الاجتماع بأسرته لدقائق يوميًا لقراءة دعاء قصير أو آية قرآن وتدارس معانيها، ليذكّرهم جميعًا أن لهم روحًا تغذيها هذه الكلمات. ويخصص وقتًا أسبوعيًا لحضور صلاة الجماعة أو مجلس ديني مع أبنائه لتعميق وعيهم الديني. هذه الأمور قد يظنها البعض ثانوية في زحمة العمل والدراسة، لكنها في الميزان الإسلامي ذات أولوية لأنها تحفظ الاتجاه العام وتبارك الوقت. وقد بيّنت الدراسات الحديثة أن الأسر التي لديها ممارسات روحية مشتركة أكثر تماسكًا وقدرة على مواجهة الضغوط. فالمؤمن يأخذ بأحدث الدراسات النافعة ويجد أنها تنسجم مع توجيهات دينه فيقدمها كأولوية.
في المحصلة، إن ترتيب الأولويات وفق المنظور الإسلامي يظل صالحًا لكل زمان ومكان، لكن طريقة التطبيق تحتاج إلى حكمة ومرونة بحسب معطيات العصر. رجل اليوم أحوج ما يكون إلى الالتزام بمبدأ التوازن الذي أرشد إليه الإسلام: توازن بين الدنيا والآخرة، بين العمل والعبادة، بين حقوق النفس والغير، بين الماديات والروحانيات. وكلما اختل هذا التوازن ظهرت المشكلات: فإن طغت الدنيا ضاع الدين، وإن أهملت الدنيا بحجة الدين وقع التعثر. ولهذا جاء الإسلام دينًا وسطًا ومنهجًا معتدلاً. يواجه الرجل تحديات جديدة كليًا – كالإنترنت والإعلام المفتوح والعولمة الثقافية – إلا أن القيم الإسلامية الثابتة تمنحه معيارًا ليفرز به ما ينفعه وما يضره. فإن جعل نصب عينيه دائمًا رضا الله وتقواه، واستشار أهل الحكمة والعلم في مستجداته، أمكنه ترتيب أولوياته بشكل صحيح مهما تعقدت الظروف. وبذلك يحقق النجاح الدنيوي والسعادة الأخروية معًا، مقتديًا بأئمة أهل البيت (ع) الذين عمروا الدنيا بالعدل والعمل الصالح ولم ينسوا نصيبهم من الآخرة أبدًا.
في زمن تتداخل فيه الأصوات وتضيع البوصلات، يبقى نور الوحي هو المنارة التي تهدي المؤمن في كل ميدان.
ترتيب الأولويات ليس رفاهية فكرية، بل هو مفتاح لحياة ترضي الله، وتُصلح النفس، وتبني الأسرة، وتخدم الأمة.
ليس المطلوب أن تكون مثاليًا، بل أن تكون واعيًا، متزنًا، صادقًا في نيتك، وتطلب رضا الله في كل اختيار.
اجلس اليوم مع نفسك…
راجع جدولك، وقتك، علاقاتك…
واسأل بصدق: هل تعكس أولوياتي ما يريده الله مني حقًا؟
ابدأ بالتعديل بخطوة واحدة، وسترى كيف تتغير الحياة حين تُرتَّب بنور البصيرة.
المصادر والمراجع: القرآن الكريم؛ نهج البلاغة؛ الكافي للكليني؛ من لا يحضره الفقيه للصدوق؛ وسائل الشيعة للحر العاملي؛ روايات مروية عن الإمام علي بن الحسين (ع) في رسالة الحقوق؛ أحاديث مروية عن الأئمة الصادقين (ع) حول العمل والكسب وطلب العلم وخدمة الناس والصحبة الصالحة؛ أقوال العلماء المعاصرين (الشيخ الصفار وآخرين) حول التوازن بين الدنيا والآخرة وتأثير التكنولوجيا على الأسرة؛ موقع الإسلام سؤال وجواب في بيان حقوق الزوجة مع حقوق الوالدين؛ خطب ومقالات ثقافية متنوعة. هذه كلها دعمت مضمون المقال وأثبتت أن ترتيب الأولويات وفق الإسلام منهج متكامل يجمع بين عمارة الحياة الدنيا والفوز في الآخرة بتوازن دقيق وحكمة بالغة.
الكاتب:محمد درويش
اترك تعليقاً إلغاء الرد
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.