هل يمكن قراءة أفكار الآخرين؟ بين العلم، النفس، والروح
- 13/06/2025
- تم النشر بواسطة: محمد درويش
- الفئة: العرفان الإسلامي العقل والروح الفكر والمعرفة علم النفس

فهرس البحث
مقدمة المقال:
تخيل أن تصحو صباحًا لتجد نفسك قادراً فجأة على سماع أفكار الآخرين.
هذا بالضبط ما حدث لطالبة الطبّ في فيلم Lulli (2021) البرازيلي، حين تعرّضت لصدمة كهربائية جعلتها تسمع نوايا كلّ من حولها بوضوحٍ مؤلم. لكنّ ما بدأ كـ”هبة خارقة”، تحوّل سريعًا إلى لعنة مرهقة، إذ انكشفت لها حقيقة الناس كما لم تكن ترغب أن تراها.
هذا السيناريو، وإن بدا من نسج الخيال، يعبّر عن هاجس بشري عميق:
هل يمكن أن نعرف ما في قلوب الآخرين؟
هل الأفكار قابلة للقراءة؟
أم أن النوايا الباطنية تظل حكرًا على أصحابها وربّهم؟
هذا البحث يحاول الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال دراسة شاملة تمتد على أربعة محاور:
العلم الحديث: من أدوات علم الأعصاب (كـ fMRI و”نظرية العقل”) إلى التحليل الإحصائي للنوايا.
علم النفس: من اللاوعي الفرويدي إلى الذكاء العاطفي والحدس المتقد.
العرفان الإسلامي: من مكاشفات الشيخ بهجت، إلى مقام الفراسة عند ابن عربي، إلى رؤية ملا صدرا لوحدة العلم والشهود.
التمييز بين الحق والادّعاء: قراءة باردة، فراسة زائفة، وادعاءات العرافين، كلها تُفكك تحت عدسة العقل والشرع.
هذا المقال ليس مجرد رحلة فكرية في عالم “قراءة الأفكار”، بل هو مرآة للنفس:
كيف نرى الآخرين؟
وكيف نُرى نحن؟
وما الذي يحدث حين تُكشف الأوراق كلها؟
الجانب العلمي: قراءة الأفكار بمنهج العلم الحديث
لطالما سعى العلم إلى فهم آلية قراءة الأفكار والنوايا لدى البشر. في علم الأعصاب الإدراكي، يبرز مفهوم نظرية العقل (Theory of Mind) الذي يشير إلى قدرة الإنسان على استنتاج حالات الآخرين الذهنية (نواياهم وأفكارهم) عبر الاستدلال العقلي. هذه القدرة تبدأ مبكرًا في الطفولة، وهي التي تمكّننا من توقع ما قد يفكر فيه أو ينويه شخص آخر بناءً على معرفتنا لسلوكه وخبراتنا السابقة معه. على مستوى الدماغ، حدّدت الأبحاث مناطق مرتبطة بنظرية العقل، مثل التلفيف فوق الصدغي والاتصال بين الفص الجداري والفص الصدغي، حيث تنشط هذه المناطق عند التأمل في نوايا شخص آخر أو محاولة استشعار ما يدور في ذهنه . هذه العمليات الدماغية تمثل الأساس العصبي للقدرة على “قراءة” الحالة العقلية للغير، وإن كانت تتم في الواقع عبر الاستدلال الضمني أكثر من كونها قراءة حرفية للفكر.
ومن زاوية أخرى، لغة الجسد وتعابير الوجه تقدم أدوات علمية لقراءة المشاعر وما قد يختلج في النفس. فقد أثبتت دراسات علم النفس أن هناك تعابير عالمية مشتركة للانفعالات الأساسية (مثل الفرح والحزن والغضب والخوف والدهشة والاشمئزاز)، تظهر على الوجوه بطريقة تلقائية في كل الثقافات . الأهم من ذلك هو ما يسمى الميكرو-تعابير (Microexpressions) أو التعابير الدقيقة؛ وهي إشارات وجهية خاطفة جدًا تدوم أجزاء من الثانية، وتعكس مشاعر حقيقية يحاول صاحبها كتمانها. فعلى سبيل المثال «التعبير الدقيق هو تعبير للوجه يستمر للحظة قصيرة فقط، وينتج بصورة فطرية عن تداخل الاستجابة العاطفية اللاإرادية مع الإرادية عندما يحاول الشخص إخفاء شعور ما» . هذه التعابير الدقيقة تنطلق من نشاط اللوزة الدماغية (مركز الانفعال) قبل أن يتمكن المرء من كبحها، مما يجعلها نافذة علمية لكشف ما يدور في باطن الشخص. وقد وضع عالم النفس بول إيكمان أسس دراسة هذه التعابير، مبينًا أنها تفضح أحيانًا نوايا أو مشاعر مخفية مثل الكذب أو التوتر، حتى لو حاول المرء الحفاظ على ملامح جامدة. ولعل القول المأثور للإمام علي بن أبي طالب «ما أضمر أحدٌ شيئًا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه» يجسد هذه الحقيقة النفسانية منذ قرون ؛ فمحاولات إخفاء ما في القلب غالبًا ما تفشل في كتمان إشارات صغيرة في نبرة الصوت أو قسمات الوجه، وهو ما يؤكده العلم الحديث عبر مفهوم الميكروتعابير ولغة الجسد الدقيقة.
على صعيد أكثر تقدمًا، سعى العلماء إلى استخدام التقنيات الحديثة مثل تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) لالتقاط النشاط الذهني المتعلق بالأفكار والنوايا مباشرة. وقد تحققت إنجازات مدهشة في العقدين الأخيرين: إذ تمكن باحثون من تحديد ما يفكر فيه الشخص في بعض الحالات عبر تحليل أنماط نشاط دماغه. على سبيل المثال، في تجربة رائدة عُرضت على متطوعين أفلام قصيرة، ثم طُلب منهم تذكّر مشاهد منها أثناء وجودهم داخل جهاز الرنين المغناطيسي. النتيجة كانت أن العلماء استطاعوا التعرف على المشاهد المحددة التي يسترجعها دماغ كل متطوع من نشاطه العصبي . مثل هذه الدراسة تبشّر بإمكانية تطوير “آلة لقراءة الأفكار” تلقائيًا، بحيث تكشف عمّا يدور في ذهن الشخص عبر أنماط نشاط دماغه . وفي دراسة أخرى أحدث (عام 2023) استعان فريق بحثي بتقنية الذكاء الاصطناعي لفك تشفير الأفكار، فتمكنوا من التقاط الفكرة العامة لما يفكر به الفرد من خلال تحليل موجات دماغه – وإن لم يكن بإمكانهم قراءة التفاصيل بدقة كاملة – مما أثار نقاشًا أخلاقيًا حول مفهوم “خصوصية العقل” إذا ما تطورت هذه التقنيات أكثر . إضافة إلى ذلك، استطاعت فرق علمية أخرى عبر تقنيات التصوير العصبي قراءة النية المسبقة قبل تنفيذ الفعل: فقد أظهرت تجربة شهيرة لـ(هاينز وزملائه 2007) أنه أثناء اتخاذ الشخص قرارًا حرًا بأداء مهمة من خيارين، أمكن للخوارزميات أن تكشف من نشاط الفص الجبهي أي الخيارين نوى الشخص اختياره قبل إعلانه بمدة ثوان . مثل هذه النتائج تشير إلى أن النيات تترك بصمة مميزة في الدماغ يمكن استباطها إحصائيًا. ومع أن قدرتنا العلمية على “قراءة الأفكار” لا تزال في مراحلها الأولية وتواجه تحديات جمّة (منها تعقيد الدماغ نفسه واختلاف الأنماط بين الأفراد)، إلا أن التقدم المضطرد ينبئ بإمكانات غير مسبوقة.
ورغم هذه التطورات، يجب التأكيد أن القراءة العلمية للأفكار مختلفة جذريًا عن الصورة الخيالية لقراءة العقول. فالتقنيات العصبية الحالية تستطيع تمييز بعض الأنماط أو تخمين محتوى محدود (كصورة يتخيلها الشخص أو فكرة بسيطة ينويها) ضمن شروط تجريبية مضبوطة، لكنها لا ترقى بعد إلى معرفة مجمل الأفكار أو النوايا العميقة كما يحدث في أفلام الخيال العلمي. كذلك، يعتمد العلم كثيرًا على الإشارات غير المباشرة: تعابير الوجه، تغيرات النبض والتعرق (كما في أجهزة كشف الكذب التقليدية)، حركة العين ونبرة الصوت – وكلها دلائل ترشدنا ماديًا إلى ما قد يفكر فيه الآخر أو ينويه. هذه كلها أدوات تسخّر منهج التجربة والملاحظة لتوفير دلائل مادية على ما يجول في ذهن الإنسان.
الجانب النفسي: التحليل النفسي والذكاء العاطفي وحدس التواصل
من منظور علم النفس، قراءة النوايا والأفكار تعتمد على فهم عميق للنفس الإنسانية وآليات الإدراك الشعوري واللاشعوري. في مدارس التحليل النفسي الكلاسيكية، يُفترض أن الكثير مما يختلج في عقول الآخرين يمكن استشفافه من خلال زلات اللسان، والأحلام، وحتى الأعراض الجسدية – فهذه كلها منافذ إلى اللاوعي. سيجموند فرويد مثلاً أشار إلى أن زلة اللسان أو تصرفًا عفويًا قد يكشف عن نية دفينة أو رغبة مكبوتة لدى الشخص. وبذلك، يكون المحلل النفسي كأنه “يقرأ عقل” المريض عبر تفسير تلك الدلائل الرمزية التي يفصح بها اللاوعي دون قصد. كما أن التحويل (Transference) الذي يحدث خلال العلاج النفسي – عندما يسقط المريض مشاعره تجاه أشخاص آخرين على المعالج – يتيح للمعالج فهم نوايا المريض وعواطفه الخفية عبر التفاعل العاطفي الحاصل بينهما. إذًا فمدرسة التحليل النفسي ترى أن النوايا يمكن قراءتها ضمنيًا من خلال تحليل أنماط السلوك والتعبير التي يصدرها الفرد عفويًا، باعتبار أن “اللاشعور” دائمًا ما يجد طريقه للتعبير عن نفسه وإن حاول الشعور إخفاءه.
أما الذكاء العاطفي (Emotional Intelligence) فهو مفهوم حديث نسبيًا يركز على قدرة الإنسان على فهم مشاعره ومشاعر الآخرين وإدارتها بمهارة. الأشخاص ذوو الذكاء العاطفي العالي لديهم قدرة فطرية أو مكتسبة على قراءة الحالة الشعورية والنوايا العاطفية لمن حولهم. فهم يلتقطون الإشارات الدقيقة في تعابير الوجه ونبرة الصوت ووضعية الجسد التي تدل على ما يشعر أو يفكر به الآخر. لذلك نجد أن أحد أبرز سمات ضعف الذكاء العاطفي هو «وجود صعوبة في قراءة الناس» ؛ أي عدم القدرة على تمييز متى يكون الشخص منزعجًا أو قلقًا أو ماذا يضايقه تحديدًا. وبالمقابل، عندما يتطور الذكاء العاطفي يصبح الفرد أكثر حساسية لمشاعر غيره، وأكثر قدرة على التفريق بين الغضب الكامن والحزن المخفي والقلق المتستر خلف ابتسامة زائفة . هذه القدرة تتيح له التعامل الأمثل؛ فيعرف متى يترك للآخر مساحة ومتى يقدم الدعم. إن فهم نوايا الآخرين العاطفية – كأن تلحظ أن زميلك ينوي الانسحاب من نقاش لأنه محبط، أو أن صديقك يبطن قلقًا رغم تظاهره بالهدوء – هو جوهر الذكاء العاطفي الذي يمكن تنميته بالتدريب والانتباه للتفاصيل الشعورية.
هناك أيضًا عامل الحدس أو ما يمكن تسميته «الفراسة النفسية» لدى بعض الأفراد. إذ نلاحظ أن بعض الناس لديهم موهبة خاصة في توقع ردود فعل الآخرين أو تكهن نواياهم دون أدلة واضحة، وكأنها “حاسة سادسة” اجتماعية. يفسر علماء النفس ذلك بأن العقل الباطن قادر على معالجة قدر هائل من المعلومات الجزئية عن الموقف والشخص المقابل (كحركة عين عابرة، أو ارتعاشة صوت خفية، أو تعبير وجهي طفيف) ثم يخرج بنتيجة على هيئة شعور حدسي. في كتابه “ومضة: قوة التفكير دون تفكير”، أشار مالكولم جلادويل إلى مفهوم «الاستدلال السريع» الذي نقوم به خلال أجزاء من الثانية بناءً على خبراتنا المخزنة، حيث يمكننا إصدار حكم أو توقع دقيق عن شخص ما من انطباع أولي خاطف. هذا النوع من الحدس المتقدم هو في الحقيقة نتاج اللاوعي الذي يربط الأنماط بسرعة مذهلة دون أن نعي العملية الفكرية نفسها. فمثلاً قد تشعر بأن شخصًا ما لا يوحي بالثقة أو أن نيته سيئة بمجرد مصافحته، وتظهر صحة حدسك لاحقًا – هنا يكون عقلك الباطن قد التقط إشارات دقيقة (كارتخاء القبضة أو تفادي النظر مباشرة) وربطها بخبرات سابقة، فأعطاك “نصيحة” داخلية عن ذلك الشخص. يُعتبر هذا الحدس أداة قراءة نوايا فعّالة أحيانًا، لكنه بالطبع ليس معصومًا من الخطأ، إذ يمكن أن تتداخل فيه التحيزات الشخصية.
جانب نفسي آخر هو تأثير اللاوعي الجماعي وآليات التعاطف العصبي. اكتشاف ما يسمى خلايا المرآة العصبية في الدماغ أوضح كيف أننا نفهم أفعال الآخرين ومشاعرهم عبر محاكاة داخلية غير واعية. فحين يرى المرء إنسانًا آخر في موقف عاطفي (كالألم أو الفرح)، تنشط في دماغه خلايا تشبه تلك التي تنشط لدى الشخص نفسه الواقع في الموقف. هذه الميكانيزمات العصبية تفسر شعورنا الفوري بتعاطف وأحيانًا معرفتنا مسبقًا بما يشعر به الآخر وكأننا نقرأ قلبه. لقد اختبر كلٌ منّا مثلاً إحساس “التوتر يعدي” في غرفة مزدحمة، أو أن الضحك معدٍ، أو أنه يعرف أن صديقه مهموم بمجرد سماع نبرة صوته حتى لو قال “أنا بخير”. كل ذلك مردّه عمليات نفسية/عصبية تلقائية نلتقط فيها الحالات الوجدانية وحتى بعض النوايا (مثل نية الانسحاب أو المواجهة) دون حاجة لكلمات صريحة. إنها لغة اللاوعي المشترك التي تجعلنا “نقرأ” بعضنا البعض من خلال التجربة الإنسانية العامة. وفي مدارس علم النفس الإنساني والمعرفي الحديثة يُنظر لهذه القدرة كجزء من التعاطف الذي يسمح لنا بفهم نوايا الآخر من داخله، بوصفنا بشرًا نتشارك الكثير من المشاعر وطرق التفكير.
الجانب الروحي والعرفاني: الكشف والفراسة في التراث الإسلامي
في التراث الروحي الإسلامي، خصوصًا لدى العرفاء والمتصوفة، نجد إيمانًا بإمكانية “قراءة ما في القلوب” عن طريق صفاء النفس واتصالها بالله. هذا الباب يُعرف بمصطلح “الكشف” أو “المكاشفة” وهو نوع من الإدراك المباشر للحقائق الباطنية دون وسائط حسية أو عقلية اعتيادية. يؤمن العارفون بأن القلب إذا تطهّر من أدران الهوى وانجلى، صار بمثابة مرآة صافية تنعكس عليها العلوم فيضًا من الله تعالى. في هذه الحالة يمنح الله للعارف علمًا لدنّيًا يكشف له ما لا يدركه غيره؛ فيرى ببصيرته ما في صدور الناس من نوايا وأفكار بإذن الله . وقد أشار القرآن الكريم إلى أن لله عبادًا مخلصين علّمهم من لدنه علمًا خاصًا (مثل قصة الخضر مع موسى عليه السلام في سورة الكهف)، مما أسّس لمفهوم المعرفة العرفانية المباشرة.
يؤكد العارفون المسلمون أن الفراسة الإيمانية حقّ: وقد استندوا في ذلك إلى الحديث النبوي المشهور «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله». وعلى الرغم من ضعف إسناد هذا الحديث عند المحدثين، إلا أنه انتشر في أدبيات التصوف واعتمدوه رمزًا لمعنى واضح: المؤمن المتصف بصفاء القلب والبصيرة قد يوفّقه الله لمعرفة ما في نفوس الناس بنور يهبه له. وشرح ابن عربي – إمام العرفاء في القرن السابع الهجري – مفهوم “مقام الفراسة” في كتابه الفتوحات المكية شرحًا وافيًا . قسّم ابن عربي الفراسة إلى نوعين: فراسة طبيعية حكمية تعتمد على دلائل الطبائع والأمزجة (تشبه قراءة الهيئة والملامح لاستنتاج الأخلاق)، وفراسة إيمانية إلهية وهي نور يقذفه الله في قلب المؤمن فيطلع به على أمور خفية. يقول ابن عربي إن الفراسة الإلهية «نور إلهي في عين بصيرة المؤمن يعرف به ما وقع من المتفرَّس فيه أو ما يقع منه أو ما يؤول إليه أمره» . أي أن صاحب هذه البصيرة قد يعرف ماضي الشخص أو حاضره أو مستقبله (مآل أمره) بوميض من الكشف الإلهي. ويضيف ابن عربي أن هذه الفراسة الربانية تتعلق حتى بمعرفة عاقبة الإنسان (سعيد أم شقي) ومعرفة الأعمال المرضية لله من غير المرضية. هذا يوضح كيف أن العارف صاحب الفراسة يلتقط إشارات خفية لا يدركها عامة الناس، لأن في قلبه نورًا يميّز به تلك العلامات الباطنة. ويُنقل في سيرة بعض الصحابة والتابعين حوادث مشابهة: كعمر بن الخطاب الذي قيل إنه نادى قائد جيشه سارية من على منبر المسجد في المدينة محذّرًا له من كمين العدو في أرض بعيدة فكُتب لجيشه النجاة (وهي قصة يذكرها أهل التصوف كرامةً لعمر). وإن صحت هذه الروايات أو لا، فقد أصبحت رموزًا لدى أدبيات العرفان تشير لإمكان انكشاف الباطن لبعض أهل التقوى.
ضمن أقوال وسلوكيات أعلام العرفان المسلمين نجد ثروة من الإشارات إلى قراءة النوايا بصفاء الروح. الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) نفسه – وهو الذي يعدّه المتصوفة إمام الأولياء – نُسبت إليه حكمة بليغة أشرنا لها: «ما أضمر أحد شيئًا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه» . ورغم أن ظاهرها أخلاقي/نفسي، إلا أن العارفين توسعوا بها ليؤكدوا أن صاحب البصيرة يمكنه رؤية خفايا المرء من خلال تلك اللمحات. كذلك ينقل عن عليّ قوله: “المؤمن ينظر بنور الله” في تأكيد معنى الفراسة الإيمانية. ومن تراث العارفين الشيعة المتأخرين هناك روايات عن سلوكيات لافتة. فآية الله العارف الشيخ محمد تقي بهجت (توفي 2009م) عُرف عنه حالات كشف كثيرة. من أشهرها ما يرويه تلامذته عن زيارته لأحد العلماء الذي كان ملازمًا لصلاة الليل ثم أقعده المرض فترة وجيزة فتكاسل عنها بعد شفائه. دخل بهجت على ذلك العالم المريض سابقًا دون أن يُنبئه أحد بتفاصيل حاله، لكنه خلال الحديث ذكّره مرتين – وبشكل عابر ظاهريًا – برواية عن أحد الأئمة تقول: «قيامُ الليلِ … مَطِيَّةُ الليل» ، مذكرًا أيضًا بالآية: ﴿إِنَّ ناشئةَ الليل هي أشد وطئًا وأقومُ قيلًا﴾. في البداية لم ينتبه المضيف أن الشيخ بهجت يعنيه شخصيًا بهذا التذكير ، ثم أدرك من إلحاح الشيخ وتكراره أن المقصود هو تنبيهه هوَ إلى العودة لعبادة صلاة الليل التي تركها إثر مرضه . كانت تلك إشارة لطيفة إلى اطّلاع الشيخ على حال قلبه دون تصريح؛ وهذا نمط من المكاشفة عند العارفين يتم بلطف وستر، حيث يُفهِمون الشخص المقابل أنهم عرفوا حاله الباطن بقصد إصلاحه لا فضحه. وفي سيرة العارف الكبير السيد علي القاضي (أستاذ العرفاء في النجف الأشرف توفي 1957م) وأمثاله، قصص عديدة يرويها تلامذتهم عن معرفتهم بنوايا المريدين وخفاياهم دون أن ينطقوا بها. فمثلاً يُنقل أن أحد تلامذة السيد القاضي فكر في نفسه أن شيخه لا يدري عن حاله شيئًا، فجاءه السيد القاضي في الدرس التالي وقال له معنى ما فكّر به حرفيًا، في إشارة إلى أنه يعلم خواطر قلبه. ومثل هذه الحكايات – سواء تثبت تاريخيًا أم لا – يستخدمها أهل العرفان للدلالة على إمكان تحقق الكشف والمشاهدة الباطنية.
كما نجد في كتب الفلاسفة العرفانيين – من أمثال ملا صدرا الشيرازي (ت 1640م) وتلامذته كالعلامة فيض الكاشاني وغيرهم – تأكيدًا على أن الكشف الصادق والإلهام الإلهي مصدر معرفي معتبر. ملا صدرا نفسه جعل منهجه يقوم على التوفيق بين البرهان العقلي والكشف العرفاني والنص الشرعي، معتبرًا أن العارف الحق هو من جمع بين نور العقل ونور القلب. فهو يرى أن الحقائق الوجودية يمكن أن تُدرك بالعقل، ولكن تمام اليقين يحصل بمطابقة الكشف مع البرهان. وفي مواضع عدة من أسفار الأربعة يشير ملا صدرا إلى حالات شهودية يتوصل فيها إلى نتائج فلسفية عبر إشراق روحي. فهذا اللون من المعرفة القلبية عنده وعند غيره من العرفاء يمكّن السالك من رؤية ما وراء حجاب المادة. لذا يرون أن بعض الأولياء يمكن أن يطّلعوا على النيات والمقاصد لأن أرواحهم اتصلت بعالم أرفع (عالم الملكوت أو عالم النفوس) الذي تنكشف فيه الحقائق دون لبس . فيقول أحد العارفين: «ذلك العالم هو العالم الباطني المكشوف لذوي الكشوف، والعالم العيني الذي لا يُشاهد بهذه العين…» ، أي أن صاحب الكشف يرى بعين البصيرة ما لا يُرى بالعين الحسية.
ومن المصطلحات المهمة هنا مقام “الكشف” و”الحدس العرفاني”. العرفاء يفرقون بين الكشف الصريح (المشاهدة الروحية المباشرة) وبين مجرد الإحساس النفسي أو التخمين. فالكشف الحقيقي عندهم يقيني لا يخطئ إذا كان وليد صفاء روحاني حقيقي. أما الحدس العرفاني فهو درجة أدنى قد تخالطها الظنون، لكنه يبقى حدسًا يتجاوز التفكير العقلي العادي ويستند إلى نور القلب. ابن عربي وغيره شرحوا أيضًا مفهوم “مقام الفراسة” كحالة يصلها السالك فيصبح كشافًا للبواطن بتأييد إلهي. يقول ابن عربي إن العارف بالله لا يعتمد إلا على الله في علومه، وقد نقل عن الشيخ أبي يزيد البسطامي قوله لأهل العلم الظاهري «أخذتم علومكم ميتًا عن ميت، وأخذنا علومنا عن الحي الذي لا يموت» ، في إشارة إلى أن المعرفة العرفانية تأتي من مصدر رباني مباشر (حي لا يموت) بدلاً من الرواية والنقل عن بشر زائلين. وهذا يلخّص نظرة العرفاء إلى علوم الكشف: أنها نورٌ يُقذف في القلب بصفاء السريرة، وفضلٌ إلهي يختص الله به بعض عباده.
العارفون المسلمون كثيرًا ما يتحفظون في إظهار مواهبهم هذه، ويعدّونها كرامات باطنية لا ينبغي التباهي بها. فنجدهم يشيرون تلميحًا إلى ما يعلمون من بواطن الأمور دون تصريح، حفظًا لستر الله على الناس. وقد يخبر العارفُ مريدَه بخفايا نفسه كوسيلة تهذيب. كما رُوي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: “لو كُشف الغطاء ما ازددت يقينًا” في دلالة على قوة بصيرته حتى في علم الغيب – وإن كان هذا الأثر يُنسب أيضًا للإمام علي في الثقة بعلم الله. عمومًا، يجمع التراث العرفاني الإسلامي على إمكانية شهود النوايا وانكشاف البواطن لمن أخلص القلب، ويورِد من الأقوال والكرامات ما يرسّخ هذا المعتقد ضمن حدود عقيدة التوحيد (أي أن ذلك يتم بالله ولله وليس باستقلال العارف نفسه). ويحرص العرفاء على تمييز هذا العلم الشريف عن الدجل والخرافة كما سنبيّن.
التفريق بين المعرفة العرفانية الحقيقية والخدع النفسية (كـ”القراءة الباردة”)
إن التمييز بين ما يعدّه العرفاء كشفًا صادقًا لنوايا القلوب، وبين ما يمارسه بعض الدجالين أو حتى بعض علماء النفس من خدع في قراءة الشخصيات، أمر بالغ الأهمية. فهناك من يدّعي معرفة ما في النفوس واستباط الأفكار سرًا، لكنه في الواقع يستعمل حيلًا وأساليب مبنية على علم النفس السلوكي وقراءة لغة الجسد لاستغفال الناس وإيهامهم بقدرات خارقة. من أبرز هذه الأساليب ما يُعرف بـ“القراءة الباردة” (Cold Reading) ؛ وهي تقنية يستخدمها العرّافون والمشعوذون لإقناع الشخص بأنهم يعرفون معلومات خاصة عنه بينما هم في الحقيقة يستدرجونها منه استدراجًا. تقوم القراءة الباردة على إطلاق تخمينات عامة ذات احتمالية عالية قد تنطبق على أغلب الناس، ومراقبة رد فعل الشخص عليها . فمثلاً قد يقول العرّاف لجليسه عبارة مرنة مثل: “يخيل لي أنك مررتَ بتجربة فقدٍ لشخص عزيز في الماضي” – وهذه جملة تنطبق تقريبًا على كل أحد. فإذا لاحظ العرافُ من ملامح الوجه أو لغة الجسد أن العبارة أصابت وتراً حساسًا، يبدأ بتضخيمها وتخصيصها أكثر . أما لو قوبلت بالإنكار، فإنه يتدارك بتعديل كلامه بسرعة أو الانتقال لتخمين آخر. سرّ القراءة الباردة هو أن الشخص المستهدَف غالبًا ما يكون متعاونًا دون شعوره؛ حيث يفسر الكلام العام على أنه خاص به، ويبدأ عقله اللاواعي بتقديم معلومات إضافية عبر انفعالاته وتعليقاته. العرّاف البارع يلتقط هذه الخيوط الخفية – من تعابير الوجه الدقيقة وتغير نبرة الصوت – ليبني عليها ويستنتج المزيد . يُسمي المختصون جمع المعلومات عبر رد فعل الضحية “القراءة الحارة” (Hot Reading) ، حيث يقوم المدّعي بتعديل تكتيكاته أثناء الجلسة اعتمادًا على ما يستشفّه من الشخص نفسه. وبهذا الأسلوب الخادع، يخرج الشخص مذهولًا “كيف عرف كل ذلك عني؟” دون أن يدرك أنه هو من كشف أوراقه بيديه تحت وطأة التأثير النفسي.
التحليل السطحي للشخصية هو خدعة أخرى أقل تنظيمًا لكنها منتشرة، تشبه ما يقوم به بعض محترفي البرمجة اللغوية العصبية أو المنجّمين الذين يجمعون معلومات أولية عن العميل بطرق مختلفة (أحيانًا عبر الإنترنت أو بمراقبة ظاهرة)، ثم ينسجون منها قراءة تبدو عميقة. كما يستغلون ما يسمى تأثير بارنوم: إطلاق وصف عام إيجابي يصدقه المستمع لأنه يعتقد أنه فريد له بينما هو ينطبق على معظم الناس (مثل: “أنت أحيانًا انطوائي وأحيانًا منفتح حسب المزاج” أو “لديك طموح كبير لم تستثمره كله بعد”). هذه العبارات المبهمة تجعل الشخص يعتقد أن القارئ النفسي اخترق دواخله، بينما الحقيقة أنها تصلح للجميع. إذًا فالفرق بين العارف الصادق والمشعوذ الكاذب أن الأول لا يعتمد حيلًا أو عموميات، ولا يتاجر بهذه القدرة ولا يخطئ إن صحّ كشفه؛ أما الثاني فيستخدم أساليب نفسية معروفة ويخلطها بالحدس والتخمين، وقد يصيب ويخطئ، وغايته غالبًا الكسب أو ادعاء الكرامة بلا حق.
وحتى علم الفراسة القديم الذي ألفت فيه كتب لترجمة الطباع من خلال ملامح الوجه أو هيئة الجسد، يدخل الكثير منه اليوم ضمن نطاق العلوم الزائفة إذا جُرّد عن أساس موضوعي. صحيح أن هناك بعض الترابطات بين سمات معينة والشخصية (كأن البنية الرياضية قد تدل على الجرأة مثلاً)، وقد أشار علماء مسلمون كملا مهدي النراقي في جامع السعادات إلى هذا الأمر قائلًا إن «أصحاب الفراسة يعوّلون في معرفة مكارم النفس على هيئات البدن» ، لكن علم الفراسة بالمعنى التاريخي (كقراءة الشخص من حجم أنفه أو انحناء حاجبيه) ليس له أساس علمي متين، بينما الفراسة الإيمانية عند العرفاء أمر آخر قائم على نور روحي لا على تحليل المظاهر. لذا ينتقد العرفاء اعتماد مجرد الفراسة الظاهرية، ويرونها ظلًا باهتًا لما يمكن أن يمنحه الكشف الرباني من بصيرة حقة .
ومن المهم أيضًا التفريق بين الكشف العرفاني والتنجيم. فقد حرص أئمة أهل البيت والعلماء الربانيون على رفض ادعاءات المنجّمين والكهنة الذين يربطون الحوادث بالنجوم أو يستخدمون الجفر والرمل بلا حق. العارف الحق قد يستخدم الجفر (كما يُنسب للأئمة علم الجفر) لكن بفهم وتسديد إلهي، لا كهؤلاء الذين يتلاعبون به. وقد شدد العارفون على أن الكشف هبة إلهية مشروطة بالتقوى، وليس صنعة يمكن لأي متدرب عليها إتقانها. بينما التنجيم وضرب الرمل وأشباهها عندهم خرافات أو ظنون لا ترقى ليقين الكشف. فالعرافة الباطلة تقوم على استرضاء الجن أحيانًا أو حسابات مظنونة، أما الكشف الروحي فعلى تزكية النفس ومواهب ربانية. وهذا فارق جوهري: العارفون ينسبون كل علم الباطن لله، فلا يدّعون علم الغيب استقلالًا، بل يرونه كرامة وتصديقًا من الله. وأيضًا يوافق علمهم الباطن مقاصد الخير والحق؛ فلا تجد وليًا صادقًا يستخدم كشفه للإضرار بالناس أو ابتزازهم أو حتى التجسس على خصوصياتهم، بل يستعمله للنصح والإرشاد وفي حدود ما يأذن به الشرع. أما مدّعو ما وراء الطبيعة في العصر الحديث (كقرّاء الأفكار في العروض السحرية) فيستغلون انبهار الناس لتحقيق الشهرة أو المنفعة، دون ورع أو التزام خلقي.
وخلاصة القول إن المعرفة العرفانية الحقيقية نور يقذفه الله في القلب بعد تهذيب ومجاهدة، وهي نادرة وعزيزة ولا تخضع لرغبات الفضول أو الأهواء؛ بينما الخدع النفسية كـالقراءة الباردة والتحليل السطحي هي مهارات بشرية مكتسبة تقوم على الملاحظة الدقيقة واستغلال قابلية الناس للتصديق، ويمكن كشفها وتعلّمها. الأولياء الصادقون عبر التاريخ عرفوا أسرارًا عن محيطهم دون حواسهم لأنهم اتصلوا بمصدر الحكمة الإلهية، أما المشعوذون فادّعوا ذلك عبر ألاعيب الحيلة. لذا على المرء أن يتحلى بروح النقد والتمييز: فلا يُنكِر إمكان الكرامة وصدق فراسة بعض الصالحين من جهة، ولا يُسلم عقله لكل من ادعى قراءة الأفكار من جهة أخرى. العلم الحديث نفسه أثبت قدرة الإنسان المحدودة على قراءة نظيره عبر الإشارات والتقنيات، لكنه أيضًا فضح وسائل المحتالين. وفي النهاية يبقى صدر الإنسان وعاء سره الذي لا يعلمه على الحقيقة إلا الله تعالى، وما منحَه لبعض خواص عباده من علم فهو فضل وابتلاء معًا: فضلٌ ليشكروا، وابتلاءٌ ليزدادوا تواضعًا وكتمًا لسرّ الموهبة. والمعرفة الحقة للنوايا مكانها القلب الصافي والنظر الرباني، لا خفة يد المشعوذ ولا مجرد حسابات العقل الظاهر.
المراجع المستخدمة:
النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة المذكورة ضمن السياق. Current Biology, Haynes et al. 2007 (دراسة علمية حول فك ترميز النوايا من نشاط الدماغ) . تقرير الجزيرة نت حول تجربة قراءة الأفكار عبر الـ fMRI . تقرير القدس العربي حول استخدام الذكاء الاصطناعي في قراءة الأفكار (2023) . موسوعة ويكيبيديا العربية – مقالة “التعبير الدقيق” (تعريف الميكروتعابير) . موقع مؤسسة علوم نهج البلاغة – شرح حكمة الإمام علي (ما أضمر أحد شيئًا إلا ظهر…) . موقع Shezlong للصحة النفسية – مقال حول علامات انخفاض الذكاء العاطفي . كتاب “جامع السعادات” للنراقي – فصل علم الفراسة . موقع يحيى محمد (فهم الدين) – مقال “الكشف ومجالات الرؤية العرفانية” (نقل عن ابن عربي والبسطامي) . كتاب “الفتوحات المكية” لابن عربي – الباب 148 في مقام الفراسة . منصة ثمانية – مقال “القراءة الباردة وما يفعله العرافون” . وغيرها من المصادر المشار إليها في هوامش الاقتباسات أعلاه.
الكاتب:محمد درويش
اترك تعليقاً إلغاء الرد
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.