لماذا يُمهل الله الطُغاة والظالمين ولا يعاقبهم فورًا؟
- 04/06/2025
- تم النشر بواسطة: محمد درويش
- الفئة: دراسات القرآنية شبهات

فهرس البحث
طرح الشبهة وتساؤلات المظلومين
يتساءل الكثيرون، خصوصًا ممن أنهكتهم الآلام والظلم، عن عدالة الله: لو كان الله موجودًا وعادلاً، فلماذا يسمح بكل هذا الظلم؟ ولم لا يُعاقِبُ الطغاة فور ارتكابهم الظلم؟. هذه الشبهة قديمة وحديثة في آنٍ واحد، واجهها المؤمنون عبر التاريخ عندما رأوا جبابرة كفرعون وبني أمية وغيرهم يتمادون في طغيانهم دون قصاصٍ عاجل. يشعر المظلوم المتألّم بالحيرة: أين العدالة الإلهية مما يجري؟ هل غَفَلَ اللهُ عمّا يفعل الظالمون؟ أم أن تأخُّر العقاب دليلٌ – والعياذ بالله – على غياب العدالة أو عدم وجود الإله أصلًا؟
من المهم مخاطبة هذه التساؤلات بمنطقٍ صادقٍ وروحٍ متعاطفة. فالإنسان الموجوع من الظلم لا يبحث فقط عن إجابة عقلية، بل عن معنى يُسكن قلبه ويربطه بعدالةٍ أكبر من ظلم البشر. الإيمان بالله لا يعني إنكار وجود الظلم والألم؛ بل يعني الثقة بأن لهذا الظلم سياقًا أوسع وحكمةً إلهية قد تخفى علينا . سنحاول فيما يلي استعراض الحكمة من تأخير العقاب الإلهي للظالمين، مستندين إلى الأدلة العقلية والقرآنية والروايات المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام)، لنبيّن أن إمهال الظالم ليس غفلةً من الله، بل جزءٌ من سنّته العادلة ورحمةٌ وحكمةٌ قد تتجلى بمرور الزمن أو في الدار الآخرة.
الإمهال الإلهي في القرآن: رحمةٌ وعدل
أكّد القرآن الكريم أن تأخير العقاب عن الظالمين ليس دليل رضى عنهم، بل هو إمهالٌ بحكمةٍ ورحمة. يقول تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِۖ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَۚ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا﴾ . هذه الآية تبين بوضوح أن الله، بغفرانه ورحمته، لا يعاجل الخلق بالعقوبة رغم استحقاقهم؛ لأنه لو فعل لما بقي أحدٌ على وجه الأرض . ورد معنى ذلك أيضًا في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍۖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ . فلو كان الله يُهلك كل ظالم فورًا لهلك غالب البشر، فإمهاله للناس رحمةٌ لبقاء النوع الإنساني وفرصةٌ للتوبة والإصلاح .
إن تأخير العقوبة قد يكون فرصة إلهية لمراجعة النفس. فالله يُمهل العاصي لعلّه يرجع عن غيّه. وقد نبّه القرآن إلى ظهور آثار الفساد بسبب ظلم الناس أنفسهم، ليوقظهم علّهم يتوبون: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ . أي أن بعض الابتلاءات العامة هي جرس إنذار ليعود الظالم عن ظلمه، فعدم التعجيل بالعقوبة هو فسحة إصلاح ورحمة من الله قبل أن يشتد الأخذ.
لكن هذه الرحمة لا تعني غياب العدل. يقول تعالى مطمئنًا المظلومين ومهدّدًا للظالمين: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ . فالتأخير محدَّد بموعدٍ لا يفلتون منه. وفي يوم الحساب تُقتص الحقوق كاملة وتوضع الموازين بالقسط بحيث ينال كل ظالم جزاءه من غير إفلات. إن التأجيل إذًا ليس إهمالًا ولا قبولًا بالظلم، بل جزء من نظام اختبار الإنسان وثمرة لاسم الله “الصبور” و”الحليم” الذي لا يعجل بعقوبة العباد.
سنة الاستدراج: عندما يكون الإمهال عقوبةً للظالم
من جهة أخرى، حذَّر اللهُ تعالى من أن إمهالَ الظالم قد يكون نوعًا من العقوبة المتخفية يُسمى استدراجًا. الاستدراج يعني أن يُغدَق على الظالم بالنعم رغم معاصيه، فيظن أن حاله خيرٌ وهو في الحقيقة يُقتاد إلى عقوبةٍ أكبر على حين غفلة . يقول تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذينَ كَفَروا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْۚ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْمًاۚ وَلَهُمْ عَذابٌ مُهينٌ﴾ . يظنّ بعض الجبابرة أن تمديد الله في أعمارهم وبسطه في أرزاقهم هو علامة رضا، ولكنه في الحقيقة إملاءٌ لزيادة الآثام حتى يستحقّوا عذابًا أشدّ مهانةً في النهاية. وقد ورد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) قوله: «واللهِ ما عَذَّبَهُمُ اللهُ بشيءٍ أشدَّ من الإملاء» ، أي ما عوقِبَ الظالم بمثل إمهال الله له وإملائه عليه بالرزق والفرص وهو مستمر في طغيانه. فالإمهال بحد ذاته قد يكون أشد أنواع العقاب حين يُترك الظالم يتمادى حتى يقع في حفرة حتفه بيده.
شرحت روايات أهل البيت (ع) معنى الاستدراج بوضوح. سُئل الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن معنى «الاستدراج» فقال: «هو العبدُ يُذنبُ الذنبَ، فيُمْلى له ويُجَدَّدُ له عندها النِّعَم، فتُلهِيهِ عن الاستغفار من الذنوب، فهو مُستدرَجٌ من حيثُ لا يعلم» . فترى الظالم يُمعن في المعصية، والله يغدق عليه نعمًا دنيوية فينخدع ويفقد الشعور بالحاجة إلى التوبة. وفي حديث آخر: «إذا رأيتَ اللهَ عزَّ وجلَّ يُعطي العبدَ من الدنيا على معاصيه ما يُحبّ، فإنما هو استدراج» ، أي علامة على مكرٍ إلهيّ بالظالم يأخذه على حين غِرّة. وقد قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ما معناه: احذروا نعيمَ الله مع الإصرار على الذنب، ولا تغترّوا؛ فإن هدوء البحر قبل العاصفة . فكم من ظالمٍ مُتْرَف ظنّ أن الله نسيَ جرائمه، وما نُسِّيَ واللهِ ولكنْ وُضِع له الفَخّ وأُمهِل حتى إذا أخذه لم يُفلتْهُ ! روى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) هذا المعنى بقوله: «إنّ الله تعالى يُمهِلُ الظالمَ حتى إذا أخذه أخذه أخذًا أليمًا شديدًا» . فطولُ المُدّة ليس أمانًا للظالم، بل يزيدُ نزوله عنيفًا حين يحين الأوان.
ومن روائع ما يُروى في كتب الحديث، كلام الإمام علي (ع) في نهج البلاغة وهو يصف حال المستدرَجين الغافلين: «لولا الأملُ [طول الرجاء] لما أصبح ظالمٌ إلا وهو مقطوع اليدين والرجلين. ولكنّ المرءَ يطمَعُ فيرحَبُ طولُه، ويُمنيّهِ اللهُ [أي يُمهله] وهو لا يعلم، ويستدرجه بالنعم وهو لا يشعر». هذا التصوير يُبيّن أن الآمال العريضة للظالم هي التي تخدعه وتُطيل عمر ظلمه، فيبقى سادرًا إلى أن يفوت الأوان. إذًا فالإمهال قد يكون مكيدة رحيمة من الله للظالم نفسه؛ إما لعلّه يستفيق، أو ليزداد إثمًا إن أصرّ، وفي كلتا الحالتين تتحقق الحكمة الإلهية في نهاية المطاف.

وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ
الابتلاء والتمحيص: اختبارٌ للمظلوم ورفعٌ لدرجاته
إلى جانب كون تأخير العقاب فرصةً للظالم، فهو ابتلاءٌ للمؤمنين وتمحيصٌ لنفوسهم. الحياة الدنيا في التصور الإيماني دارُ اختبارٍ وابتلاء، وقدَّر اللهُ أن يكون وجود الظلم أحد أصعب الابتلاءات التي تمتحن إيمان الإنسان وصبره. قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَ؟﴾؛ فالفِتنة هنا بمعنى الاختبار. ومن أقدار الله أن يُبتلى المصلحون والصالحون بظلم الطغاة ليميز الخبيث من الطيّب ويتبيّن صبر الصابرين وإيمان المؤمنين. الشدائد تصقل الأرواح وتكشف معادن البشر؛ ولولاها لبقي الادعاء بالإيمان رخيصًا يسيرًا.
لقد أكّدت الأحاديث الشريفة هذا المعنى. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل» ، فالأنبياء وهم أحب الخلق إلى الله كانوا الأكثر تعرضًا لظلم أقوامهم وتكذيبهم، ثم يليهم الأولياء فالأئمّة فالمخلصون. وكلّما عَظُم إيمانُ المرء ورسالته، عَظُم امتحانه وابتلاؤه . وروي عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع) قوله: «إنّ الله تعالى إذا أحبّ عبدًا غَتَّهُ بالبلاء غَتًّا، وثَجَّهُ بالبلاء ثَجًّا» – أي أغرقه في المصائب إغراقًا – وذلك علامة حبّ لا غضب. وفي تتمّة الحديث القدسي يخاطب اللهُ عبدَه المبتلى: «…فإذا دعاني، قلتُ: لبيك عبدي! إن عجّلتُ لك ما تسأل فأنا على ذلك قادر، ولكن إن ادّخرتُ لك (أي تأخرتُ بالإجابة) فهو خيرٌ لك» . ما أعظمها من تسلية! فالله يسمع دعاء المظلوم ويقدر أن يعجّل له الفرج، لكنه يعلم أن للتأخير حكمةً أعظم وخيرًا أدخره له. قد يكون هذا الخير رفعةً لدرجاته في الآخرة بما لا يُنال إلا بالصبر، أو تكفيرًا لذنوبه، أو إقامةً للحجّة على الظالمين.
من فلسفة الابتلاء أيضًا تمحيص صفوف المؤمنين وتنقيتهم. بالابتلاء يتميّز الصادق في إيمانه ممن في قلبه مرض أو شك. وقد ورد في الأثر أن الفتن تمحص المؤمنين تمحيص الذهب في النار ؛ ليخرجوا منها أنقى إيمانًا وأصلب عودًا. وكثيرًا ما أدّى ظلم الطغاة إلى نهضة المظلومين وتقوية عزائمهم واتحاد صفوفهم نصرةً للحق. فالمحنة قد تولّد منحة، كما حصل في كربلاء حيث أدى ظلم بني أمية الفاحش إلى صحوة الأمة وإحياء روح العدالة والتضحية. إن الله قد يسمح للظلم أن يبلغ مدًى معيّنًا لا ليربح الظالم، بل ليُستثار ضمير الإنسانية وتُستخرج أعظم الفضائل من قلوب المظلومين والصالحين. وبذلك «يَمِيزُ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» ويظهر الحق بأبهى صوره مقرونًا بصبر أهله وثباتهم.
ولا ننسى أيضًا البعد التكفيري للابتلاء: فصبر المظلوم على البلاء يرفع درجاته ويمحو سيئاته. ورد عن النبي (ص) أنه ما يُصيب المؤمنَ من نصبٍ ولا وصب (أي مرض) ولا همٍّ ولا حزنٍ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه . فكيف بمصاب ظلمٍ وفقدان أحبة أو تشريد! إن الله يرفع بصبر هؤلاء أقوامًا إلى مراتب عالية في الجنّة جزاءً على مظلوميتهم وتفويضهم الأمر إليه. فإذا رأينا الصورة كاملةً، سنجد أن المظلوم رابحٌ على كل حال: فإن انتصر في الدنيا فبفضل الله وعدله، وإن تأخر نصره فبثواب مدّخرٍ ومقامٍ محمود.
الدنيا مؤقتة والآخرة ميعاد العدالة الكاملة
من منظور الإيمان، الدنيا دار ممرّ والآخرة دار مقرّ. العدل الإلهي قد لا يكتمل في هذه الحياة الفانية لأن الحكمة الإلهية قضت أن تكون الدنيا ابتلاءً وجسرًا للآخرة حيث المستقرّ والجزاء الأبدي. كثيرون من الظالمين ربما لن ينالوا قصاصهم الكامل هنا، وكثيرون من المظلومين قد لا يرون الإنصاف التامّ في أعمارهم القصيرة؛ ولكن هذا لا يعني ضياع الحقوق. يقول تعالى: ﴿وَإِنْ كُلُّ ذلك لَمّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقينَ﴾ – أي أن كل زينةٍ أو متاع في الدنيا زائلٌ حقير، والآخرة خيرٌ وأبقى وهي للمتقين. لو جعل الله الدنيا دار جزاء تام لانعدم معنى الاختبار؛ لذا ترك بعض الظالمين في غرورهم إلى حين، وأجلّ المكافآت الكبرى للصابرين إلى يوم الفصل.
يجب أن نستحضر دوماً عدالة الله في الآخرة، فهي الميزان الذي تُسوّى به الفوارق الظالمة في الدنيا. هناك، سيأتي الظالم والمظلوم أمام ملك الملوك. سيقتصُّ الله للمظلوم من الظالم بعملةٍ لا يظلم فيها أحد: الحسنات والسيئات. فيُؤخذ من حسنات الظالم وتُعطى للمظلوم، فإن فَنِيَت حسناته أُخذ من سيئات المظلوم وحُمّلت على الظالم . وكلّما عظُم ظلمُه تضاعفت أوزاره وخسارته. أما المظلوم الصابر فسينال من النعيم على قدر آلامه، بل ورد عن الإمام علي (ع) أنه يودّ أهلُ العافية يوم القيامة لو أن جلودهم قُرِّضت بالمقاريض لما يرون من عظيم ثواب أهل البلاء والصبر. هذه العدالة المؤجلة هي جزءٌ أصيل من الإيمان: فالمؤمن الحق يوقن بأن وعد الله حقٌّ، وأن يوم الفصل سيشفي صدور قومٍ مؤمنين وينكّل بالظالمين تنكيلاً.
وقد أكّد القرآن مرارًا حتمية هذا اليوم لتطييب خاطر المظلومين. يقول عز وجل: ﴿فَلا تَحسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُۖ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾ – فهو منتقمٌ من الطغاة ولو بعد حين. بل إن النبي (ص) أخبر أن الله تعالى يثني على نفسه عند هلاك الظالمين فرحًا بإزهاق الباطل، وقرأ قولَه تعالى: ﴿فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ﴾ . فحمدُ الله هنا إعلانٌ لانتصار العدل وانتهاء حقبة الظلم. لذلك نرى التاريخ يُسجّل نهاياتٍ شنيعة لمعظم الجبابرة، عبرةً لمن يعتبر؛ ولكن العبرة الأكبر هي في الآخرة حيث لا مُلكَ إلا لله.
رسالة أملٍ وتثبيت للمظلوم
إلى كل من أنهكه الظلم وتسللت إلى قلبه الشكوى: تذكَّر أنك لستَ وحدك، فالله معك يسمع دعاءك كل ليلة وهو القائل: «وعزّتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين». ثِقْ بأن تأخير النصر لا يعني إنكاره؛ فالقصاص قادم ولو طالت السنون، والدموع التي تذرَفُها في جوف الليل ليست هدراً عند مليكٍ مقتدر. يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع): «إعلم أن نصرَكَ في وَهنِ الظالم، وإن تأخّر؛ وإحقاقَ حقِّك في أكلِ الباطل نفسه ولو ظنّ أنه ازداد طغياناً». هذه الكلمات تصوّر لنا أن الظالم في حقيقة أمره يأكل نفسه من الداخل وإن بدا متنفّجًا، وأن قوّته الظاهرة هي وهْم مؤقت.
إن الإيمان بعدالة الله يُقدّم للمظلوم سندًا روحيًا يمكّنه من الصمود. فحين تعلم أن هناك حكمةً وإعدادًا إلهيًا قد لا تبصره عينك الآن، يهدأ شيءٌ في روحك. وحين تستحضر وعود الله الصادقة، يشرق في قلبك نور الرجاء. وربما لهذا قال أمير المؤمنين (ع): «لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه» – فمن سار في درب الحق وتحمل في سبيله الأذى، فلا يستوحش أو ييأس، لأن الله معه.
وحتى يأتي وعدُ الله، لا يُثنيك تأخُّرُ العقاب عن مقاومة الظلم والسعي لإقامة العدل بما تستطيع. فالله يبتلي المؤمن لينصر المظلوم أيضًا بأيدي عباده المخلصين: يوفقهم لكشف الظالم وكبحه متى ما حان الوقت المناسب. وفي التاريخ شواهد كثيرة كيف انتقم الله على أيدي عباده من طغاة زمانهم عندما استوفى الظلم مداه. فالله يمهل ولا يهمل – وهذه عبارة تلخّص الكثير. يمهل الظالم ليستوفي فرصته في التوبة أو يبلغ الذروة التي عندها يستحق السقوط المدوي ؛ وفي الوقت نفسه يمهل المظلوم ليزداد أجراً وقوةً وروحانية، وليزداد المجتمع وعيًا ونضجًا.
في ختام المطاف، نجد أن الحكمة الإلهية أعمق من نظرتنا العجولة: فالله لطيفٌ بعباده، لا يعاجل بعقوبتهم رحمةً بهم، لكنه أيضًا شديد العقاب للظالم حين تنقضي المُهلة. هذه الحكمة المزدوجة – الإمهال في الدنيا والعدل في الآخرة – هي ما يجعل المؤمن يطمئن أن العدل الإلهي واقعٌ لا محالة. فإذا رأيت ظالمًا لم يأخذه الله بعدُ، فلا يَغُرَّنَّكَ ذلك المشهد الآني؛ إنما هي صفحةٌ من الرواية لم تُطوَ بعد. والثقة كل الثقة بنهاية القصة التي كتبها العدل الإلهي: «وَسَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنْقَلِبون».
🌑 هل أثار هذا المقال فيك تساؤلات أعمق؟
❝ لماذا يخلق الله الشر أصلاً؟
هل يمكن أن يكون للشر جمالٌ خفي؟
وهل نستطيع أن نفهم الشر دون أن نفقد الإيمان أو نكفر بالعدالة؟ ❞
إذا كانت هذه الأسئلة قد لامستك…
فانضم إلينا في دورة “جمال الشر” — رحلة فلسفية وروحية جريئة تتناول أعمق معضلات الإيمان:
وجود الشر في عالمٍ خلقه إلهٌ رحيم فلسفة الألم والابتلاء في فكر أهل البيت (ع) متى يتحوّل الشر إلى كاشفٍ عن الجمال الإلهي؟
🌐 رابط الدورة:
🕯️ لأن أعظم النور يولد من رحم الظلام…
ابدأ رحلتك الآن نحو الوجه الخفي للشر.
المراجع والمصادر: القرآن الكريم؛ نهج البلاغة؛ الكافي (ثقة الإسلام الكليني)؛ بحار الأنوار (العلّامة المجلسي)؛ وغيرها من مصادر الحديث والتفسير. تم الاستشهاد بآيات مثل الكهف: 58، الروم: 41، آل عمران: 178، الزخرف: 33–35، إبراهيم: 42، وغيرها ضمن السياق أعلاه ، كما أوردنا أقوالًا مأثورة لأئمة أهل البيت (ع) حول فلسفة الإمهال والابتلاء والعدل الإلهي ؛ وهذه النصوص جميعًا تؤكد أن تأخر العقاب ليس غيابًا للعدل، بل تجلٍّ لحكمة الربّ ورحمةٍ يستدرج بها الظالمين ويزكي بها المؤمنين إلى أن يحين يوم الفصل الذي لا ريب فيه. نسأل الله أن يربط على قلوب المظلومين بطمأنينة الإيمان، وأن يرينا وإياهم وعده الحق عاجلًا غير آجل، إنه سميع مجيب.
الكاتب:محمد درويش
تعليقان
اترك تعليقاً إلغاء الرد
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.
في أمثالنا الدارجة نقول:
سئل فرعون ذات مرة: لماذا تفرعنت على الناس؟ فأجاب: لأني لم أجد من يوقفني!
هذا واجب الناس أن يدافعوا عن الحق ويحاربوا الظلم، فإذا سكت الناس ولم يقوموا بواجبهم كما أمرهم الله ورسوله وآل بيته، حبطت كل أعمالهم.
صحيح كلامكم… أحسنتم كثيرا