الذنوب المتكررة: لماذا نعجز عن تركها؟ | جذور المشكلة وحلول قرآنية وروائية

بحث قرآني وروائي عميق يشرح سر الذنوب المتكررة، دور التقوى، ويقدّم حلولًا عملية للتحرر من أسر المعصية.

مقدمة

إن مشكلة الإصرار على بعض الذنوب وعدم القدرة على التخلص منها بالرغم من معرفة خطورتها ومحاولات التوبة المتكررة هي ظاهرة روحية وأخلاقية يعاني منها كثير من الناس. فربما يكون الذنب قديمًا متجذرًا في النفس أو جديدًا طارئًا؛ قد يكون ظاهرًا أمام الناس أو خفيًا لا يعلمه إلا الله. ومع مرور السنوات وتطور الإنسان علميًا وروحيًا في مجالات شتى، يبقى بعض الذنوب عالقًا في سلوكه وكأنها أصبحت جزءًا من عاداته يصعب اقتلاعها. وقد يكون هناك سبب محوري محتمل وهو نقص التقوى (أي ضعف حالة الحذر والخوف من الله) في القلب، مما حال دون معالجة هذا الذنب جذريًا في النفس والتخلص منه.

في هذا البحث سنستعين بآيات القرآن الكريم وأقوال المعصومين (عليهم السلام) لنعالج هذا التساؤل المهم: لماذا لا نستطيع التغلب على بعض الذنوب المتكررة؟ وما هو دور التقوى في كبح جماح المعصية؟ وما هي العوامل الأخرى المؤثرة؟ ثم سنطرح حلولًا عملية مستندة إلى التعاليم الإسلامية يمكن للمرء اتباعها ليكسر قيود الذنوب المتأصلة وينتصر على هوى نفسه بإذن الله.

مشكلة تكرار الذنب وأثره على القلب

إن ارتكاب الذنب مرة بعد أخرى دون القدرة على الإقلاع عنه يؤدي إلى آثار خطيرة على القلب والروح. فالذنوب المتكررة تُضعف حسَّ التوبة وتجرِّئ العاصي على حدود الله مع الوقت، وربما تصير عادةً مألوفة لديه. وقد بيَّن أهل البيت (ع) أن الإصرار على الصغيرة قد يحولها إلى كبيرة، إذ جاء عن الإمام علي (ع): “التقوى ترك الإصرار على المعصية” ، أي إن من جوهر التقوى ألا يداوم المرء على الذنب وألا يستصغر معصيته. فالاستمرار على الذنب بدون توبة صادقة يمحو نور البصيرة شيئًا فشيئًا حتى يسودّ القلب. وقد ورد في الأحاديث النبوية ما يشير إلى ذلك: “إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا نزع واستغفر وتاب صُقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الرَّين الذي ذكره الله: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ. فالتكرار المستمر للذنب يجرّ الإنسان إلى حالة من قسوة القلب وزوال الإنكار الداخلي للمعصية.

من جهة أخرى، قد تنبع بعض الذنوب من عوامل نفسية أو بيئية متجذّرة. فربما تشرّب الإنسان عادات سيئة منذ الصغر أو نشأ في بيئة تتساهل في بعض المحرمات، فيصبح اقتلاع تلك العادة العصية أمرًا يتطلّب جهدًا مضاعفًا. وكذلك قد يكون للصحبة السيئة دور في تثبيت الذنوب؛ فمن يخالط أهل المعصية باستمرار يصعب عليه مفارقة ما هم عليه. ولهذا أوصى الأئمة (ع) بمرافقة الصالحين وترك صحبة المذنبين لما لذلك من أثر على سلوك الإنسان. بالإضافة إلى ذلك، يلعب الهوى والشهوة دورًا رئيسيًا؛ فالذنوب غالبًا ما تكون محبّبة للنفس الشهوانية مما يجعل تركها صراعًا مريرًا بين العقل والإيمان من جهة والرغبة العاطفية أو العادة من جهة أخرى. الشيطان أيضًا يتسلّل عبر نقاط الضعف هذه، فيزيّن المعصية ويهوّن أمرها في عين العبد كلما همَّ بتركها، كي يوقعه فيها مرة أخرى.

دور التقوى في كبح جماح المعصية

التقوى هي حجر الأساس في بناء الحصانة الداخلية ضد الذنوب. وهي تعني أن يتخذ المؤمن وقايةً بينه وبين غضب الله وسخطه بفعل أوامره واجتناب نواهيه. فالتقوى حالة وعي دائم وحذر عقلاني من مخالفة حدود الله، نابعة من استشعار مراقبته عز وجل وخشيته. وكلما ازداد هذا الشعور رسوخًا في القلب، كلما تمكن الإنسان من التحكم في شهواته وكبح جماح نفسه الأمّارة بالسوء. يصف الإمام علي (ع) حالة الإنسان المتقي بقوله: “.. ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات.. ألا وإن الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار… ألا وإن التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة..”. فالتقوى بمثابة قوّة روحية تمنح صاحبها سيطرة على النفس وانقيادًا لها نحو الخير، بخلاف حال فاقد التقوى الذي تستولي عليه أهواؤه. يقول الإمام علي (ع) أيضًا في تشبيه بليغ: “إنَّ الخطايا خيلٌ شُمُس حُمِل عليها أهلها فجمحت بهم إلى النار… وإنَّ التقوى مطايا ذُلُلٌ أُعدّتْ لأهلها يُملكون أزمّتها فيُوردهم الجنة” . ويفسّر الإمام ذلك بأن تارك التقوى ضعيف الإرادة أمام الشهوات، مثله كمثل فارسٍ ركِبَ جوادًا جامحًا بلا لجام فهوى به ذلك الجواد في المهالك؛ بينما المتقي قويّ الإرادة ممسك بزمام نفسه، كمثل فارس ماهر يتحكم في فرسه المطواع فيوجّهه حيث يشاء بأمان .

من أبرز ما يدفع الإنسان إلى ترك الذنب هو استشعار رقابة الله تعالى والخوف من لقائه على حال المعصية. يقول تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ ، ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ ، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ . فهذه الآيات وغيرها تُذكّرنا أن الله مطّلع على كل صغيرة وكبيرة، لا يخفى عليه شيء حتى ما نخفيه في صدورنا. فإذا ترسّخ في قلب المؤمن يقينٌ بأنه لا مفر من نظر الله حتى في الخلوات، سيستحيي من ربه ويخشاه حق خشيته. ورد عن أمير المؤمنين علي (ع): “اتّقوا معاصي الله في الخلوات فإن الشاهد هو الحاكم” ، “ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم” . وعن الإمام الصادق (ع): “يا إسحاق خَفِ الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك” . هذه المراقبة الدائمة لله هي لبُّ التقوى، وهي التي تحجز الإنسان عن المجاهرة بالمعصية أو الإصرار عليها. وقد بيّن الإمام الصادق (ع) حقيقة من خاف الله فقال: “من عَلِمَ أن الله يراه ويسمع قوله ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى” . فجعل علامة الخوف من الله أن يمنع الشخصُ نفسه عن الأعمال القبيحة لأنه يستشعر رقابة الله.

إضافةً إلى الخوف، فإن للتقوى بُعدًا آخر هو الحب والاحترام: حب الله وتعظيم حدوده. فالمؤمن التقي لا يترك الذنب خوفًا من النار فحسب، بل أيضًا حياءً من الله وحبًا في رضاه. وقد ورد في دعاء الإمام السجاد (ع) قوله: “إلهي إن كان صغر في جنب طاعتك عملي فقد كبر في جنب رجائك أملي” – إشارة إلى أن طمعه في رحمة الله وحبه له أعظم من عمله القليل – ثم يقول: “اللهم إنّي أعتذر إليك من كل لذة بغير ذكرك، ومن كل راحة بغير أنسك، ومن كل سرور بغير قربك”، فهذا حال من ملأ حب الله قلبه فاستوحش من اللذة الحرام لأنها تبعده عن محبوبه جل وعلا.

عوامل تحجبنا عن ترك الذنب

إلى جانب ضعف التقوى، هناك عوامل عدة تجعل المرء عاجزًا عن ترك بعض الذنوب رغم علمه بأنها خاطئة:

  • الغفلة وضعف الذكر: عندما يغفل القلب عن ذكر الله، تضعف قوى الردع الداخلية. فالذكر يوقظ الضمير ويحث على التوبة، بينما الغفلة حجاب يستغله الشيطان. يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ . فالآية تبين أن أهل التقوى قد يتعرضون لنزغات الشيطان لكنها لا تلبث أن تزول بتذكرهم لله؛ فيعودون لرشدهم ويبصرون الحقيقة فورًا. أما غيرهم فإذا نسي الله واسترسل في غفلته، سيطرت عليه وساوس الشيطان وزيَّنت له الباطل. من هنا جاء في الحديث: “وما أحدٌ أشدّ على الشيطان من ذكر الله” ، وأن ذكر الله «في كل موطن» عند الإقدام على الطاعة أو المعصية يحول بين المرء والمعصية . لذلك أول خطوة عملية هي إزالة أسباب الغفلة من حياة الإنسان، كالانشغال الزائد بالدنيا وملذاتها، واللهو الذي يُنسي الآخرة، وصحبة السوء، والإفراط في المباحات التي تقسي القلب.
  • حب الدنيا والشهوات: إن التعلق المفرط بالدنيا وشهواتها يجعل القلب أسيرًا يتبع هواه حيثما توجه. يقول تعالى محذّرًا: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ – أي لا ينبغي للمؤمن أن يجعل الدنيا أكبر همّه؛ فلا يجعل ثمن نفسه أهواء زائلة. وقد وبّخ الإمام علي (ع) من يبيع آخرته بدنياه قائلاً: “لبئس المُتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنًا” . فإذا وقع الإنسان في أسر حب الدنيا، صعب عليه ترك متعها المحرمة. الشهوة تعمي البصيرة إن أُطلقت بغير قيد؛ فالنفوس الضعيفة أمام إغراء الشهوات تجد ألف مبرر للاستمرار في الذنب طلبًا للذة العاجلة. العلاج يبدأ من تربية النفس على الزهد النسبي والقناعة وتعويدها على كبح الشهوة المحرمة بحكمة قبل أن تستفحل. وقد قال تعالى: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾ (النازعات 40-41) – فجعل عاقبة مجاهدة الهوى هي الجنة.
  • ضعف معرفة الإنسان بنفسه وقيمتها: أحيانًا يقع المرء في الذنب لأنه يستهين بكرامته الإنسانية التي خصّه الله بها. القرآن يخبرنا أن الإنسان خليفة الله في الأرض، مكرَّمٌ ومفضَّل على كثير من المخلوقات: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ… وَفَضَّلْنَاهُمْ﴾ (الإسراء 70) . فإذا نسي الإنسان هذا المقام الرفيع ورأى نفسه رخيصة، ارتكب المعاصي بلا شعور بالمهانة. أما من عرف قدر نفسه، يرتفع عن الدنايا إحساسًا بأن المعصية لا تليق بكرامته. يقول الإمام علي (ع): “من كرُمت عليه نفسه هانت عليه شهواته”. وقد شبّه أحد العلماء حال من يوقع نفسه في المعصية بمن يملك سيارة فاخرة لكنه يقودها في الطرق الوعرة المليئة بالوحل فتتخرّب؛ فكذلك روح الإنسان هي نفيسة، وإغراقها في أوحال الذنوب إهانة لهذه الروح . إذًا معرفةُ النفس واحترامُها ردعٌ قويّ عن الذنوب. هنا لا بد من الإشارة إلى رحلة معرفية مهمة جدا في هذا السبيل.
  • التهاون في الصغائر والتدرّج نحو الكبائر: من مكايد إبليس أن يُهوّن على الإنسان الذنب بحجة أنه صغير، فيتجرأ على الصغائر مرارًا، فتجرّه إلى كبائر أعظم. والإمام علي (ع) حذّر: “أشدّ الذنوب ما استهان به صاحبه”، لأن استصغار الذنب دليل غفلة عن عظمة من عُصي، ولأن الإصرار على الصغير يقلبه كبيرًا. لذا جاء عن الإمام الصادق (ع): “لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار”؛ فالمداومة تحول الصغائر إلى خطيرة، بينما التوبة تمحو حتى الكبائر. فالحذر كل الحذر من الاستمرار على أي ذنب وإن ظُنّ هيّنًا، لأن ذلك قد يصبح إدمانًا يقيّد صاحبه ويصعّب تخلصه منه.
  • اليأس من التوبة وضعف الأمل في الإصلاح: قد يوقع الشيطانُ العاصي في شَرَكِ القنوط من رحمة الله بعد تكرار الفشل، فيخيَّل إليه أن لا فائدة من المحاولة وأنه هالك لا محالة. وهذا من أخطر ما يكون، لأن اليأس يُضعف الدافع للتوبة والعمل الصالح. ولكن الله تعالى فتح باب التوبة على مصراعيه ووعد بقبولها مهما تكرر الذنب، بشرط الإخلاص والصدق في كل مرة. قال تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ…إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ (الزمر 53). وجاء في الحديث القدسي: “ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي”؛ فمهما عظمت الذنوب فإن عفو الله أعظم. إذًا فقدان الأمل خطأ كبير ينبغي التنبه له، بل الواجب على المذنب أن يُحسن الظنّ بربه ويوقن أن باب الرجوع مفتوح لكيلا يستسلم لليأس. فالمؤمن المتقي إن ابتُلي بالذنب سارع بالاستغفار نادمًا ولم يملّ من التوبة، بخلاف الشقي الذي يستهتر ولا يستغفر أبدًا.

وسائل عملية للتغلب على الذنوب المتأصلة

بعد فهم الأسباب والموانع، نأتي إلى الخطوات العملية والعلاجية التي أرشد إليها القرآن والروايات لمكافحة الذنوب المتجذرة والتغلب عليها:

  1. التوبة النصوح المتجددة: الخطوة الأولى دائمًا هي تجديد التوبة بصدق. مهما تكرر سقوطك، أَصْدِقِ النيّة مع كل توبة ولا تستصغر ذنبك. التوبة الصادقة تعني الندم على الماضي، والإقلاع في الحال، والعزم على عدم العود، مع الاستغفار والعمل الصالح. وقد وصف الإمام الباقر (ع) التوبة بأنها “الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، وترك الذنب في الحال، والعزم على أن لا يعود”؛ فاحرص على هذه المعاني. ولا تيأس إن عدت واقترفت الذنب ذاته بعد ذلك، بل تُب مرة أخرى واستغفر، فإن الله يفرح بعودة عبده ويحب الإلحاح في الاستغفار. قال الإمام الباقر (ع): “لكل داء دواء، ودواء الذنوب الاستغفار” ، فاجعل الاستغفار رفيقك الدائم.
  2. تقوية الإيمان واستشعار مراقبة الله: كما أوضحنا، جوهر العلاج هو بناء تقوى حقيقية في القلب. يمكنك تقوية الشعور بمراقبة الله عبر أمور عدة:
    • كثرة ذكر الله بالقلب واللسان؛ كأن تواظب على أذكار الصباح والمساء، وتسبيح الزهراء (ع) بعد الصلوات، وقراءة القرآن بتدبر. الذكر ينعش القلب ويطرد الغفلة، وهو سلاح فعّال لتثبيت الإيمان وردع المعصية.
    • التفكّر في عظمة الله وجبروته وعلمه المحيط بكل شيء؛ تذكّر أن السماوات والأرض بيديه فلا يعجزه شيء، وتذكّر نعمه عليك وإحسانه إليك رغم تقصيرك، لعلّك تستحيي من معصيته وتعظّمه أن يراك حيث نهاك.
    • المراقبة والمحاسبة اليومية: درّب نفسك أن تتفقد أعمالك كل يوم: في نهاره راقب خواطرك وأقوالك وأفعالك، وفي ليله حاسب نفسك على ما صدر منك – فإن وجدت خيرًا فاحمد الله وازدد، وإن وجدت تقصيرًا فأصلحه بالاستغفار والعزم على التحسّن غدًا. هذه المجاهدة اليومية تطفئ جذوة الإصرار على المعصية شيئًا فشيئًا، وتبقي قلبك حيًا متيقظًا.
  3. الإكثار من العبادات وبخاصة الصلاة والصوم: العبادات في الإسلام لم تُشرّع إلا لتزكية النفس وتقوية إرادة الخير في الإنسان. فمثلاً الصلاة إذا أُقيمت بحضور قلب وخشوع تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر بنص القرآن: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ . وقد شبّهها الرسول (ص) بـالنهر الجاري الذي يغتسل منه العبد خمس مرات فلا يبقى درن ، وقال الإمام الصادق (ع): “من أحبَّ أن يعلم أَقُبِلت صلاته أم لم تُقبل فلينظر: هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر؟ فبقدر ما منعته قُبلت منه” . كذلك الصيام يهذّب الغرائز وينمّي التقوى في القلب: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ… لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ . فهو يدرّب المؤمن على ترك شهوات حلال وقت الصوم طاعةً لله، فيسهل عليه ترك الحرام في سائر الأوقات. لذا فالمداومة على صيام التطوع (كالاثنين والخميس مثلًا أو صيام أيّام البيض) تعين كثيرًا على كسر حدة الشهوة (سواء شهوة الفرج أو البطن). وكذلك سائر العبادات: كقيام الليل، وتلاوة القرآن، وأداء النوافل، وكثرة الدعاء والمناجاة، كلها تطهّر القلب وتملؤه نورًا، وهذا النور الإلهي يقوّي مناعة المرء ضد معاودة الذنب.
  4. التفكير في عواقب الذنوب والدنيا والآخرة: من أنفع الوسائل التي أكّدت عليها الروايات دوام التفكر، لا سيما عند إلحاح النفس بالذنب. التفكير المتعقّل يكشف خداع الشهوة ويرسم الحقيقة أمام العقل. قال أمير المؤمنين (ع): “الفكر مرآة صافية” تعكس للإنسان حسن عاقبة الطاعة وقبح عاقبة المعصية. ومن وجوه التفكر المفيدة التي ذكرتها الروايات:
    • التفكر في عاقبة الذنب ونتيجته: تذكّر أن اللذة العاجلة يعقبها ندم طويل أو عقوبة إن لم تتب. هذا يدعو إلى التوبة والإقلاع .
    • التفكر في فناء الدنيا وزوالها: الدنيا فانية وما فيها زائل، فكيف يبيع العاقل آخرته الباقية بشهوة ساعة؟ هذا التفكر يبعث على الزهد والتخفف من التعلق بالدنيا .
    • التفكر في نعم الله عليك التي لا تُحصى: يبعث على حب الله والحياء من عصيانه .
    • التفكر في الموت وقربه: يذكّرك بأن الوقت قصير والموت قد يباغتك فجأة قبل التوبة؛ وهذا كفيلٌ بأن يردع النفس عن غيّها ويكبح جماح الشهوة . ورد في الحديث: “كفى بالموت واعظًا” – فذكر الموت دواء عجيب لإطفاء نار المعصية في اللحظة التي تتوقد فيها النفس.
    • التفكر في الآخرة ويوم الحساب: تخيّل نفسك تقف بين يدي الله، وتذكّر أهوال القيامة – كما صوّرها القرآن: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ﴾ (القمر 7)، و﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ… لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس 34-37) – هذه المشاهد تهزّ القلب الغافل وتذكّره بأن لكل فعل حسابًا شديدًا إلا ما تاب عنه وأصلحه.
    • التفكر في الجنة والنار: استحضر وعد الله للمتقين بجنّات النعيم، وتذكّر في المقابل وعيده للعصاة بنار الجحيم، عسى أن يقوى الرجاء في قلبك وتشتعل الخشية فتمنعك من الذنب.
    هذا التفكر هو في الحقيقة نوع من الرياضة العقلية للنفس؛ به ينقشع سحر الشهوات لتظهر حقيقتها الزائفة، ويُقارن المرء بين لذة عاجلة حقيرة وعواقب وخيمة فيختار النجاة. لذا قال الإمام علي (ع): “ما زلَّ من أحسن الفكر” – أي إن من يُحسن التفكر لا تزلّ قدمه في المعصية.
  5. معالجة جذور الذنب وكسر أسبابه: لكل ذنب أسباب ودوافع خفية قد تختلف من شخص لآخر. والعلاج الناجع يكون باجتثاث سبب المرض. يقول أهل المعرفة: “علاج العِلّة بقطع سببها”. فمثلاً إذا كان السبب وراء وقوعك في ذنب معين هو صحبة معينة أو بيئة تسهّل ذلك الذنب، فعليك تغيير تلك الصحبة والابتعاد عن البيئة المفسدة. وإن كان السبب اختلاطًا بلا ضوابط على الإنترنت أو خلوةً متكررة تجرّ إلى الحرام، فغيّر نمط حياتك واملأ فراغك بالنافع، واشغل نفسك بالطاعات ليقلّ مجال وسوسة الشيطان. وإن كان السبب هو فراغ روحي أو عاطفي تحاول ملأه بالذنب، فابدأ بملء قلبك بحب الله وصحبة المؤمنين وأعمال الخير التي تشعرك بالسعادة والطمأنينة بدلًا من تلك اللذة الحرام الزائفة.
  6. التدرّج والصبر في مجاهدة النفس: ترك العادات الراسخة لا يحصل بين ليلة وضحاها، بل يحتاج إلى صبر ومصابرة ومجهود مستمر. النفس البشرية قد تقاوم في البداية وترفض التغيير، لكن بالإصرار على تهذيبها تلين بإذن الله. ربّما تساعدك خطة التدرّج: إن كان الذنب متكررًا جدًا، حاول تقليل وتيرته شيئًا فشيئًا بوضع أهداف مرحلية (مثلاً: أن يمر أسبوع بلا وقوع في هذا الذنب، ثم شهر، وهكذا) مع مكافأة نفسك إن نجحت. وإن حصلت انتكاسة فلا تُحبط، بل قم من جديد، مستعينًا بالله. تذكّر قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت 69)؛ فجهادك الصادق نفسه يجلب عون الله وهدايته حتمًا. وقال الإمام علي (ع): “لا يكن أفضلَ ما نِلْتَ في جهاد نفسك تركُ العُجب بها” – إشارة إلى أن الطريق طويل ويحتاج تواضعًا واستمرارًا.
  7. الاستعانة بالله والدعاء الصادق: لا غنى في هذا المشوار عن طلب العون من الله بصدق. ادعُ الله بإلحاح أن يُطهّر قلبك ويقوّي إرادتك ويصرف عنك السوء والفحشاء. ورد في دعاء كميل المأثور: “اللهم قوِّ على خدمتك جوارحي، واشدد على العزيمة جوارحي، وهب لي الجدّ في خشيتك، والدوام في الاتصال بخدمتك…”. وأكثر من قول: “يا مُقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك” و “يا مصرّف القلوب صرّف قلبي إلى طاعتك” كما علّمنا النبي (ص). فإذا صدقت مع الله، أعانك ووفّقك وهيّأ لك أسبابًا تعينك لم تخطر لك ببال، امتثالًا لوعده تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق 2-3). أي أن التقوى والاجتهاد في طاعة الله يجلبان مخرجًا من كل شدة، ومن أعظم الشدائد هو تسلّط هوى النفس، فالله يعين المتقي الصادق وييسّر له طريق الخلاص.
  8. التأسّي بالأئمة ومطالعة سير الصالحين: إن النظر في سيرة النبي (ص) وأهل بيته (ع) وكذلك قصص التائبين والصالحين يُلهب في القلب نار الغيرة الإيجابية والعزيمة. نقرأ مثلاً عن يوسف الصدّيق (ع) كيف استعصم بالله أمام إغراء امرأة العزيز، وقال: “معاذ الله” صابرًا، فكانت العاقبة أن جعله الله ملكًا مكرّمًا. أو نطالع حوادث من حياة التائبين الذين انقلبت حالهم من الغفلة إلى الإيمان القوي، فنعلم أن تغيير النفس ممكن متى ما صدقت النية والعزيمة. إن صحبة الصالحين ومطالعة كلماتهم تُحيي القلب وتحقّر المعصية في عين العاصي، بينما الاختلاط بأهل اللهو يُنسي الآخرة ويُهوّن الذنب. فاختر من تصاحب وتأثّر بمن يزيدك قربًا من الله.
  9. التدابير العملية الخاصة بكل ذنب: إضافةً لما سبق، هناك نصائح عملية مجرّبة لكل نوع من المعاصي:
    • لغلبة الشهوة الجنسية (شهوة الفرج): غضّ البصر عن المحرمات، البعد عن المثيرات، الإسراع إلى الزواج إن أمكن، والصيام وكثرة تلاوة القرآن لتسكين ثوران الشهوة. وتذكّر وصية النبي (ص): “يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج؛ فإنه أغضُّ للبصر وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجاء” – توجيهٌ نبوي يجعل الزواج حصنًا للعفة، ومن لم يقدر عليه فليكثر من الصوم ليكسر حدة الشهوة.
    • لمقاومة شهوة البطن (شره الأكل): جرّب الصيام بشكل منتظم، وتجنّب التُّخمة، واذكر حديث الرسول (ص): “ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شرًا من بطنه”، وأن البطنة تُذهب الفطنة. فترشيد عادات الأكل والشرب يكسبك تحكمًا أكبر في رغباتك وشهواتك.
    • لعلاج الغضب: تذكّر وصية النبي (ص) للرجل الذي طلب النصيحة فقال له ثلاثًا: “لا تغضب”؛ فإذا وجدت الغضب في نفسك فتوضأ أو غيّر هيئتك ووضعيتك، وقل “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”. واذكر ما ورد عن أمير المؤمنين (ع): “الغضب نار موقدة، من كظمه أطفأها، ومن أطلقه كان أول محترق بها”.
    • لترك الغِيبة والنميمة: تذكّر بشاعة الغيبة وتصوير القرآن لها بأكل لحم الأخ الميت (سورة الحجرات: 12). كلما سوّلت لك نفسك انتقاص أحدٍ فاذكر عيوبك أولًا، واستحضر حق أخيك المؤمن عليك وحرمة عرضه، واطلب المغفرة فورًا إذا وقعتَ في ذلك. ونبّه جلساءك – بالحكمة والموعظة الحسنة – إلى الكفّ عن الخوض في أعراض الناس.
    • لأي معصية أخرى كالتعلق بالمحرّمات الإعلامية أو المخدرات أو القمار أو غيرها: ابحث دائمًا عن البديل الحلال الذي يملأ الفراغ. فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية. حاول استبدال العادة السيئة بعادة حسنة: كالرياضة، أو المطالعة، أو تطوير مهارة نافعة، أو صحبة أهل الخير والعلم، أو الأعمال التطوعية… هذا التحويل يضيّق مجال الهوى تدريجيًا.

خاتمة: سبيل النجاة في تقوى الله والمجاهدة المستمرة

في الختام، نستذكر قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات 13)، فرفعة الإنسان ونجاته إنما تتحقق بقدر ما يتحلّى به من تقوى. فإذا رأينا في أنفسنا عجزًا عن كبح ذنبٍ معيّن مرارًا وتكرارًا، فلنراجع مستوى تقوانا وخشيتنا من الله في أعماق قلوبنا. ولنعلم أن التقوى ليست مجرد فكرة نظرية، بل هي عمل دؤوب ومجاهدة – كما وصفها الإمام علي (ع) بأنها “دارُ حِصْنٍ عَزِيز” و “خيرُ زادٍ ليومِ المعاد” . فالمؤمن مطالبٌ أن يُربي نفسه بالتقوى خطوةً خطوة حتى يصير تركُ الذنب يسيرًا على قلبه، بل حتى تُصبح المعصية بغيضةً إليه، ويشعر بتأنيبٍ شديد إن وقع فيها.

وفي الوقت نفسه، رحمةُ الله واسعة ومساعدته قريبة للمخلصين. فما دام العبد يجاهد نفسه ويطرق باب مولاه طالبًا العون، فإن الله لن يخذله. رُوي عن الإمام الصادق (ع): “ما نقل الله عز وجل عبدًا من ذلّ المعاصي إلى عزّ التقوى إلا أغناه من غير مال، وأعزّه من غير عشيرة، وآنسه من غير بشر” . هذه ثمرة التقوى التي تعوّض المؤمن عن لذة المعصية الموهومة بعزّة النفس وراحة الضمير وأُنس القرب من الله.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا التقوى الحقيقية والخوف منه في السر والعلن، وأن يعيننا على أنفسنا الأمّارة بالسوء، ويطهّرنا من الذنوب والعيوب. فإن استفرغنا الوُسع في مجاهدة أنفسنا، واستعنّا بربنا مخلصين، فلا شك سننتصر على عاداتنا السيئة ولو بعد حين. وليكن شعارنا ما رُوي عن الإمام علي (ع): “لا تخف إلا ذنبك” ، فما دمتَ تخاف ذنبك فتتجنبه وتجاهد لتركه، فإن الله سيتكفّل بهدايتك وتوفيقك إلى التوبة النصوح والفلاح في الدنيا والآخرة، وهو أرحم الراحمين.

المصادر:

  1. القرآن الكريم، سورة الحجرات، الآية 13.
  2. نهج البلاغة – قصار الحكم: 242 (في معنى التقوى) .
  3. بحار الأنوار للمجلسي، ج70 ص327 (حديث أثر الذنوب على القلب).
  4. كلمات الإمام علي (ع) في التقوى والسيطرة على الهوى .
  5. منتدى الكفيل – العوامل التي تمنع الذنب .
  6. وسائل الشيعة – حديث مراقبة الله والخوف منه .
  7. ميزان الحكمة – حديث “لا تخف إلا ذنبك” .
  8. الكافي للكليني – ج2 ص76 (حديث انتقال العبد من ذل المعصية إلى عز التقوى) .

محمد درويش

طالب علم في العلوم الحوزوية، حاصل على درجة البكالوريوس في التصميم البصري، ويكمل حاليًا دراسته للماجستير في الحوزة العلمية بقم المقدسة.

لديه خبرة في المجالات الإعلامية والترجمة، حيث عمل في هذه المجالات لعدة سنوات. كما أنه شارك في العديد من الدورات التدريبية الإسلامية في مجالات التربية، والأسرة، والإدارة.

مؤسس ومدير مركز البصيرة، الذي يهدف إلى نشر المعرفة والثقافة الإسلامية، وتقديم دورات متنوعة في هذا المجال، سعيًا لخدمة المجتمع وتلبية احتياجاته الثقافية والدينية.

يسعى لتوظيف معرفته ومهاراته المكتسبة في خدمة المجتمع، والمساهمة في تطوير مجاله. ملتزم في عمله، ولديه اهتمام بالتعلم والتطور المستمر.

بحكم خلفيته الأكاديمية في التصميم البصري والدراسات الإسلامية المتقدمة، يسعى لتحقيق التوازن بين المعرفة النظرية والتطبيق العملي، ويأمل أن يقدم مساهمات تخدم المجتمع الإسلامي.

تاريخ النشر

02/08/2025

تصنيفات المقال

وسوم المقال

مقالات الأستاذ

قريبا…

مقالات مرتبطة

قريبا…

وجهات النظر

Submit a Comment

Layer 1
الدخول المسارات